من العراق إلى فلسطين: قوة اللوبي الموالي لإسرائيل في الشرق الأوسط


ميدل إيست مونيتور –

حدود ما هو ممكن وغير ممكن دائمًا ما تتغيّر في السياسة. نحن نعتقد أنّه في ظلّ الديمقراطية، يستطيع المواطنون المشاركة في عملية التغيير السياسي، ونعتقد أن هذه هي السمة الفريدة للمجتمع التقدميّ حيث يستمع الساسة للناخبين، ومن ثمّ يسنّون القوانين والسياسات على أساس الحقائق في السعي لتحقيق المصلحة الوطنية وحقوق الإنسان. في الحقيقة، إنَّ مثل هذا الاعتقاد مضلّل للغاية.

ومع ذلك، فقد كان السمة الأساسية بين سمات مجتمعنا؛ فالرق الذي كان مقبولًا اجتماعيًا وقانونيًا أصبح محظورًا على مستوى العالم، والتمييز العنصري والجنسي لم يعد من الممكن تحمله، واستعمار واحتلال دولة أخرى أصبح محظورًا، وإنكار حق تقرير المصير لشعب أصبح جريمة. يحدث هذا التحوّل أيضًا في الاتجاه المعاكس نحو تقليص الحريات وضعف المساواة وكرامة الإنسان. وفي كثير من الأحيان يكون التحوّل السلبي أكثر دهاءً.

تحت ستار “تدابير التقشف”، أصبحت السياسات التي لم يكن من الممكن تصوّرها قبل عقد من الزمن حتمية الآن. وتحت ستار “الأمن”، اعتمدت الديمقراطيات الغربية ممارسات ترتبط عادة بالدول البوليسية. وتحت ستار “الحرب على الإرهاب”، وصلت وجهات النظر السلبية عن الإسلام والمسلمين إلى آفاق جديدة، حيث يمكن الانتصار أو الخسارة في المعارك السياسية على أساس درجة العداء تجاه عقيدة 1.6 مليار نسمة.

في المصطلحات السياسة، حدود تغيير الاحتمالات السياسية تُعرف باسم “نافذة أوفرتون”، على اسم جوزيف أوفرتون، وهي عبارة عن مجموعة من الأفكار والسياسات التي يقبلها الجمهور حول أي قضية معينة. وتُعرف أيضًا باسم نافذة الخطاب التي تتغيّر بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول في أي موضوع معين. بعبارة أخرى، لكي تكون الحكومة ناجحة، يجب وضع سياسة تتوافق مع الرأي العام والموقف المهيمن.

إنّه مفهوم واضح وبسيط ولكن، كما هو الحال مع كل تبسيط، فإنّه يفتقد العناصر الأساسية. العلاقة بين عملية صنع السياسات والمواقف العامة تبدو معقدة للغاية. لنأخذ الحرب على العراق، على سبيل المثال. هل يمكن لأي شخص أن يقول بصراحة أنّه في عام 2003، على الرغم من الحرب على الإرهاب التي بدأت بعد أحداث 11/9، تحركت النافذة بدرجة كافية لتبرير غزو بلد لم يشكّل أي تهديد على الولايات المتحدة أو بريطانيا؟ العراق، وفقًا لآراء الخبراء والجمهور على حد سواء، كان مكبوتًا، والأهم من ذلك، لم يكن له صلة بالهجمات على نيويورك وواشنطن.

إنَّ أي شك في أن غزو العراق والإطاحة بصدام حسين كان مقبولًا ومناسبًا انتهى تمامًا نظرًا للاحتجاجات العامة في تاريخ بريطانيا؛ حيث احتشد الملايين في عواصم أوروبا. لقد كانت إشارة واضحة إلى أنَّ النافذة لم تتغيّر على نحوٍ كافٍ للجمهور لقبول تغيير النظام في العراق. وكان فشل بوش وبلير في بناء تحالف واسع لهذا المشروع دليلًا آخر على الحالة الضعيفة لخوض الحرب ضد بغداد.

كان العرض الهائل من المعارضة الشعبية دون جدوى، والباقي في صفحات التاريخ الآن. أصبح بوش وبلير شخصيات مارقة، على الأقل في نظر الناس العاديين. وبشكل لا يصدق، لم تتعثر حملة عزل بلير منذ إطلاقها في عام 2004. ومع نشر تقرير “لجنة تشيلكوت” الذي تأخر كثيرًا وبدعم من مجموعة من النواب من أحزاب داخل وستمنستر، هناك احتمال خافت أن ورئيس الوزراء السابق سيتم اتهامه لدوره في الفترة التي سبقت الحرب على العراق. وعلى الرغم من أن هذه خطوة مرحب بها، لكنها لن تقربنا من معرفة لماذا انجرت أمريكا وبريطانيا في حرب عدوانية ضد نظام أجنبي لم يكن يشكّل تهديدًا على أي من البلدين. في الواقع، لقد كانت حربًا مسلّحة من قِبل البلدين.

أيًا كانت مزايا تقرير تشيلكوت، فإنّه لن يسلّط الضوء على السؤال الرئيسي. ومع ذلك، يمكن أن يساعد على وضع حد لهذه الملحمة. يمكننا، على أقل تقدير، نتوقع انتقادات شديدة ضد بلير، لا سيما بالنظر إلى طبيعة الأدلة المُقدّمة من أمثال السيدة إليزا بولر، الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي البريطاني (MI5)، التي قدّمت واحدة من الشهادات الأكثر تدميرًا لتشيلكوت. وقالت بولر: “مشاركتنا في العراق أدت إلى تطرف جيل من الشباب الذين رأوا تلك المشاركة بوصفها هجومًا على الإسلام”.  

وأضافت بولر: “من خلال غزو العراق، قدّمت الولايات المتحدة وبريطانيا الفرصة لأسامة بن لادن لبدء الجهاد العراقي”. وفي إدانة قوية لقرار خوض الحرب في عام 2003، قالت: “حذّر تقييم لجنة الاستخبارات المشتركة الوزراء من أن غزو العراق سيزيد من الخطر على بريطانيا. لو قرأ الوزراء هذا التقييم لتأكّدوا من ذلك.” وسيضطر تشيلكوت إلى الإحاطة علمًا بهذه التصريحات القوية لتجنب أي اتهامات تحاول تبرئة النظام البريطاني.

ومع ذلك، نحن بحاجة إلى أن ننظر أبعد من تقرير تشيلكوت للحصول على إجابات. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى مصدر غير متوقع: لورنا فيتزسيمونز، النائبة السابقة عن حزب العمّال والرئيسة السابقة للمركز البريطاني الإسرائيلي للاتصال والأبحاث، التي قال في مؤتمر في إسرائيل عام 2010: “الرأي العام لا يؤثر على السياسة الخارجية في بريطانيا. السياسة الخارجية هي مسألة نخبوية”. قليلون هم الذين سيتفاجؤون من هذا التصريح.

في حين أنَّ الرأي العام البريطاني مهووس بعملية صنع القرار التي أدت إلى الإطاحة بنظام صدام، فإنَّ السبب الكامن وراء غزو العراق لا يزال يكتنفه الغموض. ريتشارد هاس، وهو شخصية بارزة في إدارة بوش، قال إنّه سيذهب إلى قبره دون “معرفة الجواب.” مظاهر الجهل الحزينة هذه قد تكون محاولة لتشويه سمعة جهود الآخرين الذين يتحلون بشجاعة كافية لقول ما لا نجرؤ على ذكره مسؤولي النظام.

وفيما يتعلق بالعراق، أقترحُ أن المشكلة الرئيسية هي اللوبي الموالي لإسرائيل. ويدعم هذه الفرضية البروفيسور جون ميرشايمر وستيفن والت. بدون جهود اللوبي، كما أوضحا في كتاب بعنوان: “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية“، فضلًا عن “مجموعة من صنَّاع السياسة المحافظين الجدد والنقَّاد”، لما حدث غزو العراق.

على الرغم من أنَّ اللوبي الإسرائيلي لم يكن العامل الوحيد، إلّا أنّه كان العنصر “الحاسم”. “الفصيل المؤيد للحرب يعتقد أنَّ الإطاحة بصدام حسنت الوضع الاستراتيجي لأمريكا وإسرائيل، ويؤيّد المسؤولون والقادة الإسرائيليون الإسرائيليين هذه الجهود لأنهم كانوا حريصين على رؤية الولايات المتحدة تطيح بواحد من الخصوم الإقليميين الرئيسيين لإسرائيل، والرجل الذي أطلق صواريخ سكود على إسرائيل في عام 1991.

في الواقع، لقد كشفت حرب العراق قوة ونفوذ اللوبي الإسرائيلي في المنطقة. ومنذ ذلك الحين، أصبح تأثيره أكثر تركيزًا في مناطق أخرى من السياسة الخارجية. كشف التقرير الأخير الذي نشرته مؤسسة “ Spinwatch” بشأن اللوبي المؤيد لإسرائيل والاتحاد الأوروبي، أنّه كان هناك انتشار هائل للجماعات المؤيدة لإسرائيل داخل أوروبا منذ عام 2005. وهذه الزيادة جاءت في أعقاب القرار التاريخي من قِبل محكمة العدل الدولية حول ” الجدار العازل “الذي ألهم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. وفقا للمؤلفين: “تزامن صعود اللوبي الإسرائيلي، ليس فقط مع تشديد قبضة إسرائيل على الضفة الغربية … ولكن أيضًا مع زيادة فاعلية التضامن في فلسطين.”

مجموعات اللوبي الإسرائيلي، وفقًا للتقرير، ليست عبارة عن مجموعة من المؤسسات المعزولة بل إنها تشكّل جزءًا من “مجموعة صهيونية عبر أطلسية وعبر وطنية” أوسع. إنّها مجموعة واسعة تشمل مختلف المنظمات الصهيونية المسيحية وكذلك المجموعات التي لا تدعم فقط إسرائيل ولكن أيضًا المنظمات المؤيدة للمستوطنين المتطرفين. يجري تمويل تلك المنظمات من قِبل بعض الأثرياء والمؤسسات الخاصة في الولايات المتحدة. وبحسب التقرير، أعطى شيلدون أديلسون، الملياردير الأمريكي المؤيد لبنيامين نتنياهو، 32 مليون دولار لواحدة جماعات الضغط الصهيونية.

الأكثر إثارة للقلق هي أنَّ التبرعات لبعض هذه الجماعات تأتي من الجماعات المتشددة والمعادية للإسلام، مثل مشروع كلاريون، الذي أنتج فيلم “ Obsession”، وهو فيلم يصوّر “حرب الإسلام الراديكالي ضد الغرب”. وترتبط مصادر التمويل الأخرى بالأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة وحركات المستوطنين الإسرائيليين، وبعضهم تربطه علاقات قوية بالجيش الإسرائيلي وتتعاون مع جماعات الضغط في مجال صناعة الأسلحة مع الحكومة. العديد من الأهداف والغايات المعلنة لجماعات الضغط الصهيونية تتعارض مع السياسة الرسمية للاتحاد الأوروبي والإجماع الدولي على حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

تؤكّد جحافل جماعات الضغط على عدم المخاطرة بالروابط التجارية بين إسرائيل وأوروبا، التي تبلغ قيمتها أكثر من 30 مليار دولار. وقد ظهرت فاعلية تلك الجماعات بشكل واضح عندما اعتمد الاتحاد الأوروبي ورقة سياسة في عام 2014 بشأن وقف التعاون مع الشركاء التجاريين في المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية (جميع هذه المستوطنات غير شرعية بموجب القانون الدولي). وعلى الرغم من أن هذا كان تأكيدًا لسياسة الاتحاد الأوروبي، إلّا أنَّ سفارة الاتحاد في تل أبيب وجدت نفسها مضطرة لوضع صفحة “الأسئلة المتداولة” التي، ويا للعجب، تقدّم المشورة لتلك الشركات حول كيفية التحايل على المبادئ التوجيهية.

ويقدّم هذا التقرير الأخير إجابة جيدة على ما يرى الكثيرون أنّه الشلل الذي أصاب الخطاب الفلسطيني الإسرائيلي. لقد كان هناك إجماع دولي بشأن إقامة دولة فلسطينية على حدود ما قبل عام 1967، مع القدس الشرقية عاصمة لها، والتوصل إلى “حل عادل لقضية اللاجئين”. وعلى الرغم من ذلك، فقد فشلت أوروبا والولايات المتحدة في تغيير موقف إسرائيل. وعلى العكس من ذلك، قامت إسرائيل بتقويض تلك الجهود – إلى حد السخرية من الرئيس الأمريكي – التي تشير إلى وقف بناء المستوطنات.

المؤسسات الديمقراطية مُعرضة بطبيعتها للضغط من اللوبي الإسرائيلي. ومع ذلك، هذا لا يعني أنَّ الدول والمؤسسات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي يجب أن تسمح باختطاف سياستها الخارجية. السبيل الوحيد لمواجهة ذلك هو من خلال قدر أكبر من الشفافية. في المجتمعات الحرة، “الشمس المشرقة هي أفضل مُطهر”. ويجب على الشعوب أن تطالب بالكشف الكامل عن تمويل جماعات الضغط. على أقل تقدير، المنظمات التي تتلقى الأموال من الأفراد والشركات التي تعمل بنشاط لتقويض السياسة الرسمية، وتخالف القانون الدولي وتعزز العنصرية والعنف، يجب منع وصولها إلى مَن هم في السلطة الذين تكون آراؤهم وقراراتهم أكثر عُرضة لتأثير جماعات الضغط.