هل يخضع الجيش الأقوى في العالم للديمقراطية؟
24 أيار (مايو - ماي)، 2016
في دول العالم التي تشهد كل حين انقلابًا عسكريًا، والتي تشغل المؤسسة العسكرية فيها السلطة بشكل شبه مطلق، وتكون لها الكلمة الأولى والأخيرة في مسار الحياة الساسية والاقتصادية، تتحدث وسائل الإعلام الموالية للدولة دائمًا في تلك البلدان، عن أن العسكريين فقط هم القادرون على الحكم، وأن من يرفض حكم المؤسسة العسكرية، أو من يطالب بإخضاعها للديمقراطية المدنية، هو محض خائن يريد الهوان لبلاده، ويريد الضعف لجيشه الوطني.
أكاديمي على رأس المؤسسة العسكرية الأقوى في العالم
ربما لا يتطرق واحد من هؤلاء القائمين على وسائل الإعلام في تلك البلدان، لمناقشة الوضع في المؤسسة العسكرية الأقوى في العالم، لأنه يعلم بأن النقاش على الأرجح لن يكون في صالحه، بل قد يدلل أيضًا على ضعف منطق شعاراته، فعلى الأغلب ستُظهر النتائج عند الفحص أن المدنيين المنتخبين ديمقراطيًا حين يقودون الدول والجيوش تصبح تلك الدول والجيوش غالبًا أقوى، وأنه حين يحدث العكس وتسيطر المؤسسة العسكرية على السياسة تكون النتيجة هي الحد من تطور قوة الدولة وقوة الجيش ذاته.
على كل حال، في الدولة التي تملك أقوى جيش في العالم من حيث القدرة القتالية والثانية على مستوى العالم من حيث عدد القوات العسكرية العاملة، بحسب تصنيف وتقييم موقع «جلوبال فاير باور» المتخصص في تقييم القوة العسكرية للدول، توجد معادلة مغايرة تمامًا عما تصدر أجهزة الدولة الأيديولوجية، في دول سيادة المؤسسة العسكرية، أنه السبيل الوحيد لتكوين دولة قوية وجيش قوي.
في الولايات المتحدة الأمريكية، يُعد رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيًا هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهذه السلطة ليست سلطة رمزية على كل حال، وإنما هي سلطة واقعية وفعلية، فرئيس الولايات المتحدة هو من يتخذ بنفسه كل الأوامر الصادرة، لكل قائد أركان في القوات المسلحة، ومن ثم كل قراراته تجاه الجنود والضباط نافذة الوجوب.
وبالنسبة لوزير الدفاع الأمريكي، فمن يختاره هو رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيًا، ثم ينتظر أن تعطي لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ الأمريكي الضوء الأخضر على الاسم الذي اختاره الرئيس، ومن ثم يتطلب الأمر موافقة مجلس الشيوخ بأكمله.
ولتوضيح الصورة بشكل أكبر، فسنلقي الضوء على حالة وزير الدفاع الأمريكي الحالي «آشتون كارتر».
في بعض البلدان العربية إذا تحدث فرد عن رغبته في أن يكون رأس السلطة العسكرية أو رأس الشرطة الوطنية حتى، شخص مدني، ربما يتهم بالخيانة والعمالة للجهات الأجنبية، والسعي لتفتيت البلاد.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة الجيش الأقوى في العالم فإن الأمر يختلف تمامًا، فآشتون كارتر وزير الدفاع الأمريكي، هو أكاديمي، تخرج في مجال الفيزياء وتاريخ العصور الوسطى من جامعة ييل؛ وهو رجل علم وأدب قبل أن يكون جزءًا من المنظومة العسكرية، فهو حاصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء النظرية من جامعة أوكسفورد، كما أنهعمل في عدة مراكز بحثية وعلمية تعتبر من أكثر المراكز المرموقة في العالم.
أخبار لم تتداولها الصحف العربية
منذ بداية الحرب على أفغانستان عام 2001 وحتى الآن قُتل ما يناهز 2200 أمريكي على الأراضي الأفغانية، وقد كان عام 2015 هو الأكثر دموية بين كل تلك الأعوام على الأراضي الأفغانية، بحسب أرقام الأمم المتحدة التي بدأت في إحصاء القتلى والجرحى في هذا النزاع منذ عام 2009.
في الواقع دخل الجيش الأمريكي، بنفقات كبيرة جدًا، في حرب لم يستطع أن يحسمها لأكثر من 10 سنوات، في كل من أفغانستان والعراق.
إزاء ذلك وجد الكونجرس الأمريكي، صاحب الصلاحيات الواسعة، والذي يُعد واحدًا من أقوى المؤسسات التشريعية في العالم، أنه لا بد وأن يتخذ إجراءات صارمة، حتى لو كانت تلك القرارات على حساب جنرالات المؤسسة العسكرية، وحتى لو أغضبت البنتاجون، فالمؤسسة المنتخبة ديمقراطيًا عليها أن تغير المسار، بما يخدم المصلحة العامة، لا مصلحة المؤسسة العسكرية وحدها.
خلال الثلاثين عامًا الماضية، انخفضت نسبة قيادة القوات المشتركة للولايات المتحدة الأمريكية بنسبة تبلغ حوالي 38%، لكن على الجانب الآخر ازداد معدل القيادات المرموقة «أصحاب الأربعة نجوم»، مقارنة بالعدد الإجمالي للقوات، بنسبة قدرها 65%.
ولا يرى الجنرالات والأدميرالات رفيعو المستوى غرابة في ذلك، فهم يرون أن هذا عملي جدًا، لأن الحرب الحديثة ضد الإرهاب عمل تخطيطي بالأساس أكثر من كونه تنفيذيًا، وأن ميادين المعارك الفعلية تعتمد على مجالات الدفاع ضد الصواريخ والهجمات الإلكترونية، بالإضافة إلى مجال استخدام الأسلحة شديدة التعقيد والتطور، وكل هذا يحتاج من وجهة نظر أصحاب النجوم الأربعة، لمجموعة كبيرة ومتميزة من الجنرالات والأدميرالات.
لكن الكونجرس يُحضر لقرارات مخالفة في الواقع بشدة لآراء ورغبات الأدميرالات والجنرالات في المؤسسة العسكرية الأمريكية. ففي تقرير لمجلة التايم الأمريكية أعده مارك سومبثون، بتاريخ 15 مايو (أيار) 2016، أكد أن مجلس الشيوخ الأمريكي يسعى ويعد لتخفيض عدد القيادات بجيش الولايات المتحدة الأمريكية، الذين يخوضون حروب الولايات المتحدة ضد ما يسمى بالإرهاب، بنسبة كبيرة تبلغ 25%.
فقد أرسلت لجنة الدفاع بالكونجرس بالفعل، إنذارًا للبنتاجون بأنها في طريقها لتنفيذ الاقتراح بخفض عدد الجنرالات.
وتمثل النسبة التي من المتوقع أن تُخفض، حوالي 222 جنرال من إجمالي 886 جنرال وأدميرال، بوزارة الدفاع الأمريكية.
يأتي هذا في ضوء التخطيط لميزانية الدفاع الأمريكي لعام 2017، وللمفارقة فإن من يترأس اللجنة المنوطة بهذه الاقتراحات في مجلس الشيوخ، هو السيناتور جون ماكين، مع العلم أن والده وجده كانا أدميرالين في البحرية الأمريكية، لكن على كل حال يرى السيناتور ولجنته والاتجاه الغالب في الكونجرس، أن التكاليف قد زادت عن الحد المقبول، وأن حجم القيادات قد ازداد بشكل لا مبرر له، بالمقارنة مع حجم القوة التي يقودها هؤلاء الجنرالات والأدميرالات.
ويأتي هذا كله في ضوء الشعور العام داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بأن البنتاجون قد عمد إلى زيادة أعداد الجنرالات والأدميرالات منذ عام 2001، والذين اعتمد عليهم في حربه على ما سُمي بالإرهاب، لإظهار الجدية أمام الشعب، في قتاله لتنظيم القاعدة، وغيره من التنظيمات الأصولية، بينما توضح الأرقام أن تلك الأعداد الغفيرة من الجنرالات في النهاية من يدفع رواتبهم ورواتب مساعديهم، هو الشعب الأمريكي الذي يدفع الضرائب.
على كل حال لم ترغب الصحافة العربية في التعليق على هذا الخبر الهام، حيث يبدو أن الأخبار المتعلقة بخضوع المؤسسات العسكرية للمؤسسات الديمقراطية المدنية، ليست من الأخبار التي تهتم بالتعليق عليها أغلب المؤسسات الصحفية في الدول ما بعد الكولونيالية بالعالم العربي.
هناك من هو أقوى من الكونجرس والبنتاجون!
في تقرير سابق بعنوان «هل تخشى حكومات الغرب حقًا من إرهاب داعش»، بينا كيف تكون الحرب سببًا في الانتعاش الاقتصادي، وإلى أي حد تحدد الحروب والقرارات المتعلقة بها، حجم الأرباح التي تجنيها الشركات الرأسمالية الكبرى، وهذه الشركات هي المؤسسة الأقوى من الكونجرس المنتخب، ومن المؤسسة العسكرية الأقوى في العالم نفسها، في الولايات المتحدة الأمريكية.
في الواقع، فإن إستراتيجيات البنتاجون منذ عهد الرئيس الأمريكي ترومان، تُحدد أولًا وفق معرفة المال الذي ستزود به المؤسسة العسكرية للقيام بعد ذلك بمهماتها، وبعد معرفة الأموال التي ستتوفر لها، يتم بعد ذلك تحديد الأهداف التكتيكية، فالمال هو الذي يحدد الخطة بشكل كبير.
وتلعب جماعات الضغط المختلفة، المتمثلة في رجال الأعمال والمؤسسات الرأسمالية الكبرى، وشارع البورصة الشهير وول ستريت، دورًا كبيرًا في وضع المحددات العامة للإستراتيجيات.
وفي أحوال كثيرة، تلعب دوائر المال والأعمال الدور الأكبر في تمرير موقف معين داخل المؤسسة العسكرية، أكثر من دور رئيس الجمهورية المنتخب، أو دور الكونجرس كذلك.
تلعب دوائر المال دورًا أكبر بتمرير مواقف معينة (مصدر الصورة: arabic.irib.ir)
يرى أستاذ العلوم السياسة بجامعة كنساس الأمريكية، ديل هيرسبرنج، في كتابه «البنتاجون والرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية.. العلاقات المدنية العسكرية من روزفلت إلى بوش»، أن العلاقة بين الكونجرس والبنتاجون مرت بثلاث مراحل، الأولى كانت في بدايات القرن العشرين، حيث كان الكونجرس قادرًا وقتها على إخضاع البنتاجون، لخططه وسياساته الدفاعية، عبر اللجان التابعة له لدى أجهزة الجيش والبحرية المختلفة.
في تلك الفترة لم يكن بنيان الاقتصاد الأمريكي يسمح لنفسه بالتوسع على النحو الذي تسير عليه الشركات الاحتكارية حاليًا.
وتنتهي تلك المرحلة بنهاية الحرب العالمية الأولى، وإطاحة وزير الدفاع آنذاك «ستيمون» بالضباط الكبار الموالين للكونجرس، وبهذا بدأت مرحلة جديدة، عبرت عن تطور الاقتصاد الأمريكي، وتطور الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم، حيث رأى الجيش في تلك اللحظة أن الاستثمارات الأمريكية الكبيرة بالخارج، تحتاج لقوة جبارة تحميها من الدول والشعوب المعادية لها، وبالتأكيد دول العالم الثالث التي تُستثمر فيها رؤوس الأموال الأمريكية، خطر كبير في هذا الصدد.
أما المرحلة الثالثة بحسب هيرسبرنج، فهي تلك التي تبدأ من نهاية الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى يومنا هذا، وهي المرحلة التي خضعت بشكل أساسي للشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات، حيث جندت تلك الشركات المؤسسة العسكرية لتحقق ما يخدم مصالحها بالأساس، وبدأت سيطرة الكونجرس على ما هو مصيري في المعادلة العسكرية تتلاشى، وفي تلك المرحلة لم يستطع الكونجرس فيما هو مصيري أبدًا أن يخضع المؤسسة العسكرية، ومن خلفها جماعات الضغط المتمثلة في الشركات الرأسمالية الكبرى.
صار أقصى ما يقدر الكونجرس على فعله هو تأجيل قرار معين هامشي، أو فرض قرار معين لا يتعلق بما هو مصيري وجذري، حيث لا يفعل الكونجرس شيئًا في العموم سوى إضفاء الشرعية على البنتاجون ومن خلفه أصحاب رؤوس الأموال الضخمة.
وبحسب هيرسبرنج فإن المسيطر الحقيقي على الكونغرس و البنتاجون، هو الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات، مع العلم هنا، أن نظام الإنتاج الحربي في الولايات المتحدة الأمريكية، قائم على رأس المال الخاص، وهذا يعني، بمد الخط المنطقي لأطروحة هيرسبرنج على استقامته، أن الأمر قد يصل إلى أن تفرض المؤسسة العسكرية ومن خلفها أصحاب رؤوس الأموال الضخمة على رئيس الجمهورية في بعض الأحيان بعض القرارات المصيرية بعينها.
باختصار، فعلى الرغم من أن الكونجرس الأمريكي يستطيع أن يتخذ قرارات جريئة بشأن المؤسسة العسكرية، قد تتعلق بتقليص عدد الجنرالات والأدميرالات، ويستطيع في عديد المسائل الفرعية، أن يُخضع المؤسسة العسكرية الأقوى في العالم، لكن في النهاية يظل الأمر في النظم «الرأسمالية الديمقراطية»، هو خضوع الجميع لمؤسسة أخرى غير منتخبة ولم يفوضها الشعب لاتخاذ قراراته، وهي مؤسسة رجال الأعمال، والرأسمالية الاحتكارية.