كيف تحوّلت استراتيجيات حزب النهضة في تونس؟

25 مايو، 2016

واشنطن بوست –

أحدثت العملية الهشة لبناء الديمقراطية في تونس تغييرات استثنائية. لقد اختفت بعض أحزاب المعارضة الرئيسية في الماضي بالكامل. وظهرت الديمقراطية التوافقية، لكنها قائمة على عودة النخبة السياسية والاقتصادية السابقة. وعلى الرغم من النجاحات السياسية، تواجه العملية الانتقالية الآن تحديات أمنية وسخط اقتصادي خطير. في مؤتمر منذ يومين، أعلنت حركة النهضة رسميًا انفصالها عن جذورها الإسلامية لتقسّم نفسها إلى حزب سياسي مدني وحركة دينية منفصلة.

لقد شكّل حزب النهضة هذه العملية المتفاوتة من الديمقراطية، وبدوره تشكّل بها كذلك. تحوّلت الحركة من حركة معارضة دينية نظّمت مظاهرات حاشدة ضد نظام زين العابدين بن علي، إلى حزب سياسي يتبنى أجندة تسعى إلى إجماع الآراء حولها. ومن الآن فصاعدًا، سيتم تقسيم النهضة إلى حزب سياسي يستند إلى مرجعية إسلامية لكنه ليس حزبًا “إسلاميًا” بشكل رسمي، وحركة دينية واجتماعية وثقافية منفصلة.

كانت طموحات حزب النهضة راديكالية. عندما أعلن الحزب لأول مرة عن مشروعه السياسي في عام 1981، تحدث عن الانحياز إلى “المظلوم”. وطمح للمنافسة في الانتخابات وفي نفس الوقت وضع ثقافة فرعية منشقة تتمحور حول الهوية والأخلاق والدعوة إلى الإسلام. بعد سنوات من الإقصاء والقمع، انتقلت الحركة في نهاية المطاف إلى المواجهة في عام 1990، بعد سجن قادتها في اعتقالات واسعة بعد نجاحها في انتخابات العام الماضي. وقد نظّمت الحركة المظاهرات والاحتجاجات التي استمرت لشهور، قبل أن يتم تفكيكها في حملة نهائية.

بعد عقدين من الزمن، بعد انتفاضات عام 2011، تبنى حزب النهضة اللهجة الشعبية مرة أخرى، ودعا إلى محاكمة قوات الأمن المسؤولة عن قتل المتظاهرين، وطالب بإصلاح الشرطة السياسية، ودعا إلى انفصال تام عن النظام السابق.

ولكن تحت ضغط فشلها في حكومة 2011-2014، غيّرت حركة استراتيجيتها. لقد خففت من طموح الأسلمة في صياغة الدستور وغيرّت التزام سابق باستبعاد كبار الشخصيات السابقة من حزب بن علي، التجمع الدستوري الديمقراطي، من الحياة السياسية.

بعد خسارته في الانتخابات الثانية في أكتوبر عام 2014، بذلت قيادة حركة النهضة المزيد من الجهود للقيام بدور ثانوي في التحالف مع منافسها حزب نداء تونس، وهو حزب جديد يمثل النخبة السياسية والاقتصادية في العصر القديم. صوّتت الحركة لصالح قانون جديد لمكافحة الإرهاب الذي كان أشد قسوة في بعض الأجزاء من قانون بن علي، وأيّدت مشروع قانون لا يحظى بشعبية من شأنه العفو عن رجال الأعمال المتهمين بارتكاب جرائم مالية. وكانت هذه، كما ذكر حزب النهضة، “استراتيجية التوافق” التي كانت مطلوبة لصالح قضية أعظم من مجرد انتقال ديمقراطي ناجح.

كيف يمكن أن نفسّر هذا التحوّل؟ التفسير الأكثر شيوعًا هو أنَّ حزب النهضة عمل ببراغماتية. حتى لو كان أراد الحزب حقًا تطبيق الشريعة أو اتخاذ موقف أكثر تشددًا ضد نخب النظام السابق، فإنَّ واقع السياسة الانتقالية تطلب الحلول الوسط. وبالرغم من كل شيء، أظهرت هزيمة حزب النهضة في انتخابات أكتوبر عام 2014 أنه لا يمكن تحقيق انتصارات متكررة في صناديق الاقتراع. ربما كان من الممكن الحصول على الكثير من الأشياء عن طريق القبول بنتائج أخرى أفضل في الأوقات المضطربة، خاصة في نظام يعني فيه التمثيل النسبي ونموذج البرلماني الرئاسي المختلط أن الحكومات الائتلافية كانت أكثر احتمالًا من نظام الحزبين. ولكن هذا يعني أنَّ تكيّف الحركة كان عرَضيًا ونتيجة للاضطرابات السياسية في السنوات القليلة الماضية.

ثمة طريقة أفضل للتفكير في تغيير استراتيجية حزب النهضة وهي أن نسأل ما هي الدروس التي استفادتها الحركة من تاريخها. والأهم هي الطريقة التي تعلمت من خلالها الحركة من تجربتها في انتخابات أبريل عام 1989، خلال فترة وجيزة من الانفتاح السياسي في بداية نظام بن علي. وعلى الرغم من الترشح كمستقلين في انتخابات مزورة، فاز مرشحو حزب النهضة بنحو 15 بالمئة من الأصوات على الصعيد الوطني، وما يصل إلى 30 بالمئة في بعض المدن، بما في ذلك تونس وسوسة والمنستير وبنزرت. لكنهم لم يفوزوا بأي مقعد في البرلمان، وبدلًا من ذلك، ظهرت مواجهة حادة بين الحركة والنظام، مع مظاهرات جماعية تجوب الشوارع وحملة واسعة من الاعتقالات. وأدى ذلك إلى القمع الشديد وتفكيك الحركة.

في السجن والمنفى، دخلت الحركة في عملية تقييم. وأقرّت بأنَّ الطموح السياسي قد طغى على مشروع الأسلمة الثقافية والاجتماعية. تقبلت الحركة فشلها في بناء تحالفات مع أحزاب المعارضة الأخرى، وأنَّ الأفعال العرَضية من العنف قد قوّضت موقفها. الاتجاهات المختلفة تعلّم دروسًا مختلفة.

بدأ القادة في المنفى باقتراح المصالحة مع نظام بن علي، مما تسبب في إحباط الآلاف من أنصار حزب النهضة الذي يقبعون في السجون التونسية. وتشير المقابلات مع قادة أنصار حزب النهضة منذ عام 2011 إلى أن الخوف من عودة القمع لا يزال قوة تحفيزية كبيرة حتى الآن. لقد رأوا الاندماج في حكومة ائتلافية – مهما كانت التنازلات والتكاليف التي قد تترتب عليها – كحماية من خطر العودة إلى القمع.

ولكنَّ آخرين، بما في ذلك بعض المعتقلين، تعلّموا دروسًا مختلفة، وفي عام 2000 شرعوا في العمل مع غير الإسلاميين في جمعيات حقوق الإنسان أو في أحزاب المعارضة الأخرى لتحدي النظام الاستبدادي. العديد من السجناء السابقين الآخرين، بطبيعة الحال، ابتعدوا عن كل نشاطات المجتمع المدني والسياسي بسبب حملات القمع والإقصاء الاجتماعي. بالنسبة لهم، كان الدرس المستفاد من المواجهة هو أن الطموحات السياسية لقادتهم قد دمّرت سنوات من العمل لبناء ثقافة فرعية إسلامية في المجتمع. هذه الدروس المختلفة تفسّر إلى حد ما انقسام حزب/حركة النهضة اليوم.

التفسير الثالث لهذا التحوّل الاستراتيجي هو أنه يمثّل التكيّف الفكري الأكثر عمقًا ولكنه غير حاسم. الانقسام إلى حزب وحركة ليس مجرد فصل وظيفي ولكنه محاولة لإعادة التفكير فيما يعنيه أن تكون حركة إسلامية تتنافس في إطار نظام ديمقراطي. لقد كانت هذه الإشكالية قيد المناقشة داخل الحركة لعدة سنوات، حتى قبل انتفاضة عام 2011، ولكن دائمًا ما كان يجري تحديها.

في المراحل النهائية من صياغة الدستور في يناير عام 2014، حاول بعض نواب حزب النهضة عبثًا إعادة إدخال الشريعة كمصدر للتشريع أو استبعاد الضمانة الدستورية للحق في حرية الضمير. ولا تزال الرؤية السياسية للحزب غامضة. في كثير من الأحيان، عادت حركة النهضة إلى موقف مألوف للدفاع أو بوصفها الوصي على التقاليد الإسلامية التي تعتبرها أصيلة فيما يتعلق بالتجربة التونسية. استراتيجية التوافق للحركة لا تعني مجرد إقامة تحالفات سياسية واقعية ولكنها تصوّر أيضًا المجتمع التونسي كمجتمع واحد متجانس مع الحفاظ على الهويّة الأصيلة للبلاد.

لقد أخذت قيادة حزب النهضة من ماضيها الشعور بضرورة توخي الحذر والاحتواء. ونتيجة لذلك، فإنَّ الأولوية الجديدة لاستراتيجية سياسية تسعي لتحقيق التوافق هي التكيّف الاستراتيجي والتحوّل الفكري. ومع ذلك، لا يزال قادة النهضة يحاولون إقناع باقي أعضاء الحركة أو خصومها السياسيين بقيمة هذا النهج الجديد.