يجب على تركيا وأوربا أن يواجها الواقع


فورين بوليسي –

ألقت الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء التركي المعتدل أحمد داود أوغلو في وقت سابق من هذا الشهر مرة أخرى بظلال من الشك حول مستقبل اتفاق اللاجئين الذي تم توقيعه في شهر مارس بين تركيا والاتحاد الأوروبي. ولكن سواء نجح الاتفاق أم لم ينجح، فإنه لا يمثل سوى جانب واحد فقط من العلاقات التركية- الأوروبية الأوسع. وفي ضوء التطورات السياسية في كل من أنقرة وبروكسل، حان الوقت لإعادة التفكير في الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه هذه العلاقة.

وبموجب الضغوط المحلية من أجل التصرف حيال أزمة اللاجئين، استجابت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل لسلسلة من مطالب الرئيس التركي القوي، رجب طيب أردوغان، في مقابل إبرام صفقة اللاجئين. ومن بين هذه المطالب – بالإضافة إلى الحصول على 6 مليار يورو، ودخول الأتراك بدون تأشيرة إلى أوروبا – الوعد بفتح فصل جديد في العملية المتأخرة منذ فترة طويلة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

ولازال احتمال انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ضعيفا، لذلك تم النظر إلى وعد ميركل باعتباره مبادرة رمزية في الغالب ساعدت على إغراء أردوغان بقبول الصفقة. ولكن بالنظر إلى تطور تركيا في ظل حكم أردوغان، وأن تركيا لا تلقى استحسانا في أوروبا، فلازالت تركيا دولة منبوذة في أوروبا. لذا، لقد حان الوقت للتغاضي عن مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والتفكير بجدية في بدائل أخرى.

وعلى الرغم من أن تركيا تقدمت أولا بطلب للانضمام إلى الكيان السابق على الاتحاد الأوروبي، وهو المؤسسة الاقتصادية الأوروبية، في العام 1987، إلا أن الطرفين لم يدخلا مفاوضات الانضمام التي طال أمدها حتى عام 2005. ويجب أن تتفق الدولة المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي مع قائمة مفصلة من القواعد، مقسمة إلى 35 فصلا، تضم كيفية التعامل مع قضايا تتراوح بين حرية حركة البضائع واستقلال القضاء وقواعد المنافسة. ولا يمكن فتح أو إغلاق أي فصل من هذه الفصول (عندما تستوفي الدولة المرشحة متطلباته) إلا بموافقة جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن، تمكنت تركيا من فتح 15 فصلا وإغلاق فصل واحد فقط.

وأسباب سعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي معروفة جيدا: حيث تسعى إلى الجمع بين الديمقراطية الإسلامية وحلف شمال الاطلسي والغرب مع تعزيز الإصلاحات السياسية والاقتصادية في الداخل. ويروق احتمال ترشح دولة كبيرة غيورة على سيادتها مثل تركيا لدول مثل المملكة المتحدة التي ترغب في ضمان بقاء الاتحاد الأوروبي منطقة تجارة حرة بدلا من أن يتحول إلى كيان سياسي أكثر اندماجا. كما أيد الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش والرئيس باراك أوباما أيضا محاولة تركيا للانضمام للاتحاد، بما يعزز الفكرة القائلة بأن حلف شمال الاطلسي وعضوية الاتحاد الأوروبي يجب أن يسيرا جنبا إلى جنب. (وقد تحدث وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدري نيابة عن العديد من الأوروبيين الغاضبين عندما اقترح، في المقابل، أنه ربما ينبغي على المكسيك أن تنضم للولايات المتحدة).

ولكن التطورات الداخلية في تركيا لم ترق إلى آمال داعميها بالنظر إلى إحكام سيطرة أردوغان على السلطة وخططه لإجراء تغييرات دستورية من شأنها أن تعزز النظام الرئاسي جنبا إلى جنب مع الحملات التي يشنها على المعارضة ووسائل الإعلام. وفي تقرير العام 2015، أدانت مؤسسة فريدوم هاوس “عدة سنوات من التراجع” في حرية الصحافة في تركيا.

وفي حين أن عملية الانضمام قد حققت بعض التقدم في بدايات الألفية الثانية، إلا أنه لم يكن لها تأثير كبير عندما تعارضت مع أجندة أردوغان الداخلية. فقد امتثل حزبه الحاكم لقواعد الاتحاد الأوروبي عندما تعلق الأمر بإضعاف دور الجيش في السياسة، ولكنه عمل على مخالفتها فيما يتعلق بالتعاطي مع  المجتمع المدني، وقام باستجماع قوته لإضعاف التقاليد العلمانية في البلاد .

وعلاوة على ذلك، لازالت تركيا ترفض الاعتراف بجمهورية قبرص، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي، وتحتل النصف الشمالي من البلاد بما يقرب من 30000 جنديا، وهو عدد أكبر من القوات التي شاركت بها في عمليات حلف شمال الاطلسي.

وفي انتهاك للاتفاق الجمركي الذي عقدته مع الاتحاد الأوروبي، رفضت تركيا التجارة مع قبرص.  ومن أجل معاقبة تركيا على عدم التزامها، أجل مجلس الاتحاد الأوروبي محادثات الانضمام الرئيسية في عام 2006. وعلى الرغم من أن هذه المسألة كانت بالفعل  عقبة في مسار تركيا، إلا أن أردوغان تشدد في آرائه بشكل أكبر في السنوات الأخيرة.

وبخلاف تصاعد الاستبداد السياسي المقلق في البلاد، يشكك الكثير من الأوروبيين في توجه تركيا نحو أوروبا لأسباب جغرافية وثقافية. حيث تقع 3٪ فقط من الأراضي التركية في أوروبا، والناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في تركيا أقل من ثلث المتوسط ​​الأوروبي. وإذا ما انضمت أوروبا إلى الاتحاد الأوروبي، فسوف تصبح أكبر دولة من حيث عدد السكان 75 مليون مواطن، وهي دولة إسلامية تجاور سوريا، والعراق، وإيران.

وتظهر استطلاعات الرأي العام في أوروبا أن الأغلبية المتزايدة من الناخبين تعارض انضمام تركيا. وفي الواقع، لقد أظهرت قضية تركيا الفجوة بين بروكسل، التي ينظر إليها على أنها تحاول دفع عملية الانضمام إلى الأمام، وبين الأوروبيين، الذين يعتبرون أكثر من مجرد متشككين في هذا الانضمام. ففي عام 2014، عارض 69% من الألمان محاولة انضمام تركيا (52% في عام 2005)، بينما دعم 26%  الانضمام. وفي العام نفسه، عارض 83 % من الفرنسيين الانضمام. حتى في المملكة المتحدة، التي دعم دبلوماسيوها دائما العرض التركي، وافق 34 % فقط من السكان على الانضمام في عام 2014.

وهنا يكمن سر المفاوضات: من غير المرجح أن يتم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي على الاطلاق. ففي كل مرحلة، يجب أن تتم الموافقة على الخطوة التالية بالإجماع من قبل جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مع إمكانية حدوث استفتاء في بعض الدول. ومن المشكوك فيه أن يتم التوصل إلى توافق في الآراء. (بالنظر إلى أن الناخبين في هولندا رفضوا مؤخرا توثيق العلاقات مع أوكرانيا، وهي دولة مسيحية أوروبية بلا شك).

وحتى الآن تستمر المحادثات مع أنقرة لأن مختلف المشاركين الأوروبيين يتوقعون أن تقوم دولة أخرى – ربما فرنسا أو ألمانيا – باستخدام حق الفيتو في النهاية وتحمل مسؤولية فشل المفاوضات. وفي خضم أزمة اللاجئين، قد يميل البعض إلى القول بمسايرة الوضع الحالي لتأمين المزيد من التعاون. ولكن هذا يضر أكثر مما ينفع. وتواجه المفاوضات خيارين: إما الذهاب إلى طريق مسدود، أو أن يتم استخدامها كفزاعة بواسطة الشعبويين المناهضين للأوروبيين. وقد أصبح الوضع يشكل مصدر استياء للعديد من الأتراك، الذين تضاءل حجم دعمهم للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وبالإضافة إلى ذلك، أصبحت شروط عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي – التي تم النظر إليها طويلا من قبل الأوروبيين كوسيلة ضغط – أكثر عبئا من كونها ورقة ضغط في حالة تركيا. ولا يميل أردوغان إلى تقديم تنازلات بشأن أساليبه التسلطية لكونه يشعر بامتلاك اليد العليا، مما يجبر الاتحاد الأوروبي إلى التخلي عن مبادئه للحصول على صفقة اللاجئين، أو البحث عن حل آخر. وقد أخبرني دبلوماسي أوروبي مؤخرا قوله: “لقد اعتدنا أن ننظر إلى محادثات الانضمام باعتبارها مصدرا للقوة، الآن أصبحت تشكل قيدا علينا”. لا يوجد مسار واضح لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وتأجيل البت في هذا القرار يسمم العلاقات أكثر من ذلك ويشجع أصوات الفتنة في كل من أوروبا وتركيا.

وهذا لا يعني أنه يجب على القادة الأوروبيين أن يسعوا إلى المواجهة مع تركيا. الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لتركيا، حيث يذهب ما يقرب من نصف الصادرات التركية إلى أوروبا. وعلاوة على ذلك، فيما يتعلق بتنويع مصادر الطاقة ومكافحة الإرهاب وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط تشكل تركيا أهمية استراتيجية كبيرة لجنوب أوروبا. ولكن التحالف العسكري يختلف عن الاتحاد السياسي. ولكن أنقرة لم تثبت أنها شريكا ثابتا بسبب التردد في منع المقاتلين الجهاديين من العبور إلى سوريا واستغلال قضية اللاجئين لابتزاز أوروبا من أجل تقديم تنازلات. وإذا أصبحت تركيا عضوا دائما في الاتحاد الأوروبي، فإنها سوف تستخدم حق الفيتو على قرارات السياسة الخارجية الجماعية في أوروبا وهي نتيجة غير مقبولة.

وتدل المسألة التركية على عدم قدرة أوروبا على رؤية جيرانها إلا من خلال عدسة “التوسع” . وهناك سبب منطقي لذلك. فعلى الرغم من العقبات التي تواجهها أوروبا والتراجع الديمقراطي في بلدان مثل المجر وبولندا، لا يمكن إنكار أن توسع الاتحاد الأوروبي كان قوة غير عادية للاستقرار والديمقراطية في القارة الأوروبية. فقد ساهمت عملية التكامل الطويلة والمؤلمة، مع سيادة القانون وقواعد السوق الحرة، إلى حد كبير في ترسيخ التحولات في دول وسط وشرق أوروبا بعد سقوط جدار برلين.

ولكن لا يمكن أن يتم استخدام احتمالات التوسع كأداة للسياسة الخارجية إلى الأبد. يجب على الزعماء الأوروبيين أن يبدأوا في التفكير في بدائل لانضمام تركيا مثل جعلها “شريكا استراتيجيا”، وهو خيار فضلته أنجيلا ميركل نفسها: وهذا يمكن أن يدفع عملية التقدم في عدد من المجالات دون الوعد أو طلب المستحيل. لقد حان الوقت بالنسبة للاتحاد الأوروبي أن يعترف بحدوده المستقرة وأن يطور القدرة على الدفاع عنها، بما يعزز فكرة أن القارة الأوروبية يمكن أن تكون بمثابة قوة سياسية وليس منظمة دولية دائمة التوسع.