التدخل الروسي في سورية وإعادة هندسة الشرق الأوسط
25 أيار (مايو - ماي)، 2016
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتراجع الذي حلّ بدور روسيا العالمي، انبعثت «الفكرة الروسية» كعقيدةٍ حلّت محل الشيوعية، وترافقت مع صعود فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة، من خارج الـ«بوليتبيرو» Politburo الحاكم، عبر رافعة الحرب الشيشانية، وتفجيرات موسكو في العام 1999. و«الفكرة الروسية» هي مُنتَج اليمين الروسي المتطرف، الذي يسعى لاستعادة دور روسيا العالمي، وتشارك في صناعته الكنيسة الأرثودوكسية عبر إضافة سمة القداسة إلى مهمة روسيا، كروما الثالثة، في حين يضيف اليمين، كلاً من «فوبيا الغرب» و«نظرية المؤامرة». حينها يتحد الإيمان الأرثودوكسي مع الوطنية الروسية اليمينة الصاعدة، في مركبٍ عقائديٍ جديد: «يوراسيا الجديدة»، الذي يرى أن لروسيا دوراً أكثر أهمية في آسيا منه في أوروبا.
والتر لاكوير، يذهب في كتابه Putinism، إلى أن كثرة استخدام مصطلح «Geopolitics» لدى منظري روسيا البوتينية اليوم، هو لتضمين حقوقٍ إلهية أو طبيعية معطاة، ومهماتٍ تاريخية لروسيا، بالاشتقاق من موقعها الجغرافي. المصطلحُ الذي أدخله إلى القاموس الروسي، راسبوتين روسيا الجديد، ألكسندر دوغين، في نهاية التسعينات، يتضمن البحث عن قارة جديدة، يوراسيا، قلبها المؤثر روسيا. وبما أن روسيا ضعيفةٌ عسكرياً واقتصادياً، لذا عليها إقامة محاور وأحلاف، يبدو أن أهمها في سياقنا السوري، هو محور موسكو-طهران.
وتتضمن الجيوسياسة الروسية، نقلَ الخطوط الدفاعية من الحدود الروسية، إلى مناطق أبعد، والتسبب بعدم استقرار يخفّض النفوذ الإقليمي فيها، ويُصعد التوتر مع الدول العظمى، خاصة في الشرق الأوسط. كما تهدف الجيوسياسة الروسية إلى تقويض الوحدة الأوروبية-الأطلسية، وتفكيك الاتحاد الأوروبي، وفرض مقايضة النفوذ الروسي بالاعتراف الغربي بمناطق المصالح الروسية ما بعد السوفيتية.
ويذهب ألكسندر دوغين، إلى أن الحرب في سوريا هو على القوة الجيوسياسية، كما كان عليه الحال دائماً، بين القوة البرية ممثلة بروسيا، والقوة البحرية ممثلة بالأطلسيين. فسوريا تقعُ في مركز المعركة بين ممثلي النظام العالمي ذي القطب الواحد، وذلك متعدد الأقطاب. كما أن انهيار سوريا هو مقدمةٌ لانهيار الدول المسلمة في المنطقة، ووصول ملايين اللاجئين إلى أوروبا، ما سيتسبب في زعزعة استقرارها وإحداث شللٍ سياسيٍ شاملٍ فيها.
«الجيوسياسة» الروسية تسعى لمدّ الصراع في الشرق الأوسط، بين السنة والشيعة، بعوامل تأجيج، تُبقي إمكانية اندلاع حربٍ كبرى، قاب قوسين أو أدنى. وهي تسعى من خلال تحالفها مع إيران والنظام السوري، إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط، وفق الفالق السني الشيعي.
ما يذهب إليه دوغين والجيوسياسيون الأوراسيون، يبدو مختلفاً عن نظرة الخبراء الروس. مثلاً المحلل السياسي الروسي، فيودور لوكيانوف، يرى أن القيادة الروسية لا تعتقد بأن سورية مازالت موجودة. لذا فهو يرى النجاح في عمليةٍ واقعية تقيم «إسرائيل علوية» في الساحل السوري، تدافع عن نفسها، عن طريق الدعم الخارجي. وباستعراض أنواع الأسلحة، نجد أن روسيا استقدمت طائرات «Su-25» وحوامات «Mi-24»، والهدف الرئيس منهما تأمين دعمٍ جويٍ لصيقٍ للقوات البرية في عملياتها ضد قوات المعارضة. في حين أن طائرات «SU-34» تهدف لحماية أجواء المنطقة الساحلية، التي سرعان ما أضيف لها منظومة صواريخ «S-400»، كما تحركت قطع من أسطول البحر الأسود الروسي إلى شرق المتوسط، وجلبت معها منظومات أسلحة لا علاقة لها بقتال المعارضة ولا «الدولة الإسلامية»، بل تهدف إلى خلق «No fly zone» (منطقة حظر جوّي) فوق مناطق النظام. الأمر يحمل استجابةً روسيةً لدرس الحرب في البوسنة، بعدما شنّت الولايات المتحدة في العام 1996 حملةً جويةً أجبرت صرب البوسنة، وبلغراد وموسكو، على القبول بتوقيع اتفاق «دايتون» للسلام.
النتائج السلبية المحتملة لانهيار الأنظمة، بحسب الخبراء الروس، تدفع موسكو لتخفيفها عبر إدارة علاقات متنوعة وجيدة مع اللاعبين الإقليميين المتحاربين، والبحث عن فرصٍ جديدة يُتيحها النزاع الإقليمي. أي أن عمل الخبراء والمستشرقين الروس، صارَ محاولة اقتناص الفرص من الفوضى التي ينشرها الجيوسياسيون. وبات ذلك يظهر كنزاع بين الخبراء والمسؤولين الروس، ففي حين، يحاول الخبراء ضبط العمل وفق إيقاعٍ براغماتي، يبدو المسؤولون الروس أكثر تشبعاً بالعقيدة الأوراسية.
يميل الخطاب الروسي، الرسمي، إلى تجنب الدخول في مزالق اليمين المتطرف وحذلقاته، لذا يبدو تدخلها في سوريا، بحسب فيتالي نومكين، الخبير والمستشرق ومستشار المبعوث الدولي إلى سوريا، على أنه لوضع حدّ لنمو التنظيمات الجهادية التي تشكل خطراً عظيماً على الدولة-الأمة. نومكين يُقلل من مساحة الأرض التي تسيطر عليها المعارضة السورية، ويُقدرها بـ 5 في المئة من مساحة سوريا، في حين يسيطر تنظيم “الدولة” على 50 في المئة، والتدخل العسكري الروسي في سورية يأتي في سياق الصراع مع الجهاديين.
روسيا تبدو في مقاربتها الرسمية الخطابية للشأن السوري، حاملةَ عهدة اتفاقية وستفاليا، وتقدير سيادة الدول-الأمة. خوف موسكو من التغيير الخارجي، دفعها إلى تغذية «نظرية المؤامرة» بكثيرٍ من الأغاليط، وتصنيف ثورات الربيع العربي، وقبلها الثورات الملونة في بعض دول الاتحاد السوفييتي السابقة، في خانة المؤامرات الأميركية. خوف موسكو من قوى التغيير الناعم، وحراك المجتمع المدني، دفعها لانتهاج طرق التغيير الخشن، عبر دعم الحركات الانفصالية في أوكرانيا، ومليشيات شيعية في سورية.
وروسيا تسعى لتطبيق نموذج الحرب غير الخطية في سورية؛ وفق تنظير الأوراسي في قسم الدراسات الشرقية في معهد العلاقات الدولية في موسكوفلاديسلاف سوركوف (يكتب باسم مستعار). والحرب غير الخطية هي خلق «حرب بدائية» بين أمتين أو ضمن تحالف واحد من المتقاتلين، حرب الجميع ضد الجميع. والحرب غير الخطية في سورية، بحسب دراسة عن FPRI تتضمن عدم السعي لاستعادة كامل سورية، بل تحقيق نتيجتين متوائمتين: تأمين الجيب العلوي في سورية، كما حدث في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ويمكن التحكم بها عبر اعتمادها الدائم على الرعاية الروسية. ومن جهة أخرى، البحث عن قاديروف سوري بين القبائل الكردية لتأمين الحدود التركية السورية، عبر توحيد الجيوب الكردية الثلاثة في الحسكة وعين العرب وعفرين، وهي كانتونات غير متصلة جغرافياً.
كما تسعى موسكو إلى استغلال الشقاق بين الإسلاميين المحاربين للنظام، وتوسيع الفروق بينهم، والاستثمار في اقتتالهم الداخلي، كما يحدث حالياً في غوطة دمشق، التي بدأ التصدع بين فصائلها بعد زيارة وفد روسي إلى الفصيل الأقوى، «جيش الإسلام»، قبل أربع شهور، وسط حديثٍ عن إمكانية عقده لهدنةٍ مع النظام.
من جهةٍ أخرى، بدا بوتين حريصاً، قبل تدخله العسكري، على الدفع باتجاه إقامة تحالف جديد ضد “الإرهاب”، يجمع موسكو مع طهران ودمشق، و«حزب الله» اللبناني. وهو ما تحقق عملياً، بإضافة مليشيات «وحدات حماية الشعب» الكردية و«الحرس الثوري» الإيراني، وعشرات المليشيات الشيعية العراقية والأفغانية. الاستعانة بأجسام غير وستفالية، لمواجهة تنظيمات غير وستفالية، سبق إمدادها بعناصر بشرية من قبل موسكو، هو أحد وجوه الحرب غير الخطية، التي تخوضها روسيا في سورية، وهو كفيلٌ بنقض ادعاء الدفاع عن “السيادة”.
جيوبوليتكس أم دلائل انهيار؟
بالنسبة للأوراسي ألكسندر دوغين، الحرب في سورية هي المرحلة الثالثة من الصراع بين الأوراسيين والأطلسيين، بعد حربي الشيشان وجورجيا، وهي بالتالي قد تكون اللحظة النهائية في انكشاف الصراع مع الغرب. فإذا قبلت روسيا بالدور الأميركي في سورية وخانت بشار الأسد، سيكون ذلك عصفاً شديداً بهوية روسيا السياسية، وإذا حدث العكس ستكون نهاية الولايات المتحدة كقوةٍ عظمى متفردة. بالنسبة لدوغين، هزيمة روسيا في سورية، ستتبعها الحرب في إيران والقوقاز، ما يعني أنه يتوجب على بوتين عدم التخلي عن الأسد، وإلا سيكون ذلك انتحاراً جيوسياسياً لروسيا. في سورية، الحرب لا تقبل حلاً وسطاً أو تفاهماً، بل هي الطريقة الوحيدة لتأكيد الوقائع.
ولكن بالنظر إلى وضع روسيا الحالي، فالنظام فيها بات يشتق شرعيته من العمل العسكري الخارجي، لا من صناديق الاقتراع. والسلطة الروسية باتت مُحتكرةً من قبل نخبة صغيرة، ربطت مصالحها بشخص بوتين، بعدما طالت العقوبات الغربية معظمها، وصَغُرَت كعكة الفوائد القابلة للتقاسم. الاتجاه إلى الحروب الخارجية، يترافق مع تحول بنيوي في النظام نحو الشمولية، بعد إنهاكِ التعددية وإضعاف المؤسسات الديموقراطية، ما بات يفرض تغييراً في سمات السلطة الروسية، ظهرت نتائجه في سيطرة الأوراسيين على مفاصل القرارات، واستبعاد الخبراء والسياسيين.
نيقولاي بيتروف، في دراسة صادرة عن «ECFR»، يقول إن روسيا باتت رهينة النظام، والنظام رهين بوتين، وبوتين رهين أفعاله التي ضاقت بشكل كبير مروحة خياراتها. لكن دوغين رأى في كتابه “بوتين ضد بوتين” أن عدو بوتين الأخطر هو النخبة السياسية الروسية المحابية للغرب المحيطة به، والتي أسماها بـ«الطابور الخامس». اليوم تكاد تختفي تلك النخبة من السياسيين والخبراء، لصالح الأوراسيين، الذين يتعاظم نفوذهم الداخلي، وميلهم للحروب الخارجية. ولكن، ألم تكن الحروب الكبرى، في الغالب الأعم، نتيجة حتمية لأفعال إمبراطوريات في طور الانحلال.
الأمر يدفع للتفكير، أهي جيوبوليتكس أوراسية التي تطبقها روسيا في سورية، أم مجرد محاولة أخيرة لاستعراض القوة عن عجز، ما يستلزم الحشد لها والتعبئة، بوصفها «مقدسة» و«نهائية».