بعد انتهاء الحصار من قبل الجيش الأحمر السوفياتي على مدينة برلين الألمانية عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، سيتذكر سكانُ برلين البالغ عددهم آنذاك أكثر من مليونين ونصف المليون نسمة، الطيار الأمريكي كايل هالفورسن صاحب فكرة إسقاط الحلوى والمواد الغذائية إلى سكان برلين الغربية المحاصرة من قبل السوفييت، وهو ما عُرف لاحقًا بالعملية “ليتل فيتل” التي أنقذت سكان برلين من براثن الوقوع تحت النفوذ السوفياتي، والخضوع تمامًا لسلطة الماركسية الشيوعية بقيادة ستالين آنذاك.

من حقّ العراقيين أن يسألوا عن السبب، وهل من المعقول أن تكون المبادئ والأخلاق الإنسانية متغيرة تبعًا لاختلاف المكان؟

 لذا فإنه ومن المنطقي، ومن باب ردّ الجميل أن يقوم البرلينيون بكتابة تلك العبارة آنفة الذكر على النصب التذكاري الذي شُيّد في برلين تخليدًا لأولئك المحتلين الغزاة الذين تقاسموا برلين فيما بينهم، إلا أنّ المحتل الأمريكي أو البريطاني كان أرحم من السوفياتي الذي حاصرهم وجوّعهم، وبالتالي فمن الواجب شكر الأمريكيين والبريطانيين حتى لو كانوا محتلين وغزاة، ذلك كونهم أفضل السيئين حسب رؤية أهل برلين في ذلك الزمان!

قد تغدو المقاربة هنا مستحيلة، بل هي ضربٌ من الخيال فيما لو تمت بين برلين وبغداد! فالمحتل هو ذاته، والجنود قاموا بما قاموا به تحت راية العلم الأمريكي ذاته، الذي لم يتغير منذ توحيد الولايات الأمريكية، إذًا من حقّ العراقيين أن يسألوا عن السبب، وهل من المعقول أن تكون المبادئ والأخلاق الإنسانية متغيرة تبعًا لاختلاف المكان، وربما الطقس؟! فهل يُعقل أن يكون الأمريكيون أخلاقيين في حربهم ضدّ الاحتلال النازي الذي تسبب بنشوب أكبر حرب في تاريخ البشرية من حيث الخسائر البشرية والمادية؟! في حين أنهم دمروا بلدًا آمنًا ذات سيادة، وانتهكوا المحرمات كافة، حتى صار المرء يبحث عن أيّ تصرفٍ أخلاقي في حربهم ضدّ العراق الذي لم يحاربهم أو يتجرأ على مدني أو عسكري أمريكي واحد؟!

لكن، وللأسف لا يجدُ المرء أيًّا من تلك الأخلاقيات التي يتنطع بها قادة أمريكا يوميًا، ويفاخرون العالم بها أناء الليل وأطرف النهار.

كان خطأ العراق الذي عدّته أمريكا سببًا لعدوانها عليه، هو ديكتاتورية صدام حسين، وعدم خضوعه لقرارات الأمم المتحدة، في منع امتلاك السلاح النووي، وحصره فقط بين يدي الدول الكبرى، ناهيك عن حربه ضدّ إيران، واحتلال الكويت.

 إلا أنّ ما جرى في العراق من جرائم وانتهاكات لا يكاد العقل يقوى على استيعابه.

مليارات الدولارات اختفت من البنوك العراقية، وأطنانٌ من الذهب لم يعرف العراقيون كيف تلاشت وتبخرت في جيوب الأربعين حرامي وقائدهم علي بابا الأمريكي، أضف إلى ذلك آلاف القطع الأثرية من متاحف العراق، دبّت الروح في عروقها من جديد لتعبر البحار نحو المتاحف الأوروبية، أمّا الأرواح التي أُزهقت، والملايين الذين تشردوا، والشرخ الكبير الذي نتج عنه هذا الانقسام الحاد داخل النسيج المجتمعي العراقي، فقد يحتاج إلى مجلداتٍ ضخمة تسبر معاناة شعبٍ أعزل، تكالبت عليه الخطوب، فراح يتنقل من سطوة جلّادٍ إلى آخر.

في طبيعة الحال لا تهدف تلك السطور إلى إدانة مساعدة أهل برلين في تلك الحقبة من الزمان، فهم كغيرهم من الشعوب كانوا ضحية جلادهم الذي أدخل بلادهم في أتون تلك الحرب التي غيرت وجه البشرية، إلا أنّ ما ننشده ها هنا، كما هو حال لسان كثير من العراقيين ومنهم أهل الفلوجة خاصة، وغيرهم من السوريين وأهل الرقة في مقدمتهم، هو ألا يتمّ التعامل معهم على أنهم متطرفون ومجرمون دواعش، فتستمر إبادتهم التي لم تتوقف منذ أكثر من عقد من الزمان.

 فهل سيكون حظّ أهل الفلوجة والرقة كحظّ أهل برلين يومًا ما؟!