رمضان فقراء تونس ليس كرمضان أثريائها


تقف الحاجة زهرة بن عبدالله أمام محل بيع الخضار والغلال بسوق حي المنيهلة الشعبي الواقع على بعد 25 كيلومترا شمال غرب تونس العاصمة وعيناها شاخصتان في الأسعار المكتوبة على لوحات خشبية بالطباشير والقابلة للمحو، وهي تتأفف من غلاء منتجات موسمية محلية بشكل مقلق.

سألت العم صالح عن أسباب غلاء المواد الغذائية خلال شهر رمضان فأجابها متهكما “اسألي قايد السبسي والصيد (وهما على التوالي رئيس البلاد الباجي قايد السبسي ورئيس الحكومة الحبيب الصيد)، أما أنا فمن مصلحتي أن تنخفض الأسعار، أشعر بما تشعرين، ربي يستر، إنها الثورة يا حاجّة”.

ابتسمت الحاجة زهرة ذات الستين سنة ثم اقتنت كيلوغراما من البطاطس وكيلوغراما من الطماطم وكيلوغراما من الفلفل وكيلوغراما من البصل وكيلوغراما من اليقطين وحزمة من المقدنوس وكيلوغراما من الخوخ، وضعت مقتنياتها في سلة منسوجة من سعف النخيل ثم سألت عن الثمن فأجابها العم صالح “10 دنانير و300 مليم (حوالي 5 دولارات) يا حاجة”.

وقبل أن تعود إلى منزلها اقتنت رطلا من لحكم الضأن بـ 10 دينارات (حوالي 5 دولارات)، وهي تردد “الغلاء والكواء، لم نعد قادرين على إعداد مائدة الإفطار، لا رحمة ولا شفقة في شهر الرحمة، مسكين الزوالي (أي الفقير)”.

تمثل الحاجة زهرة واحدة من آلاف نساء ورجال الأحياء الشعبية التي تضررت كثيرا جراء غلاء أسعار الخضروات والغلال واللحوم، خلال النصف الأول من شهر الصيام في تونس المنتجة لهذه الأنواع من المواد الاستهلاكية، رغم حملات المراقبة التي تقوم بها وزارة التجارة سواء لتخفيض أسعارها أم لمراقبتها.

غير أن تلك الجهود كثيرا ما تؤول إلى الفشل نتيجة شبكات المضاربة والاحتكار التي باتت تتحكم في قوت التونسيين، بعد أن ركزت سوقا موازية تمثل 54 بالمئة من نسبة الاقتصاد المنظم لتجبر التجار على محو الأسعار المكتوبة بالطباشير يوميا وتغييرها وفق إملاءاتها.

ووفق بيانات وزارة التجارة ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 11 بالمئة ما أدى إلى تراجع مؤشر الاستهلاك العائلي بنسبة 18 بالمئة.

الأسعار الرسمية مفقودة

يرى خبراء التنمية الاجتماعية أن البيانات الرسمية تقلل من ارتفاع الأسعار بما في ذلك المواد الغذائية بنسبة تصل إلى 50 بالمئة فيما ارتفعت بعض المواد الأخرى وخاصة الفواكه الجافة بنسبة تفوق 100 بالمئة. ومقابل اشتعال الأسعار لم تتجاوز الزيادة في أجور العمال والموظفين سوى نسبة 8 بالمئة سنويا من الأجر الأساسي وفق بيانات الاتحاد العام التونسي للشغل ما أدى إلى تدهور المقدرة الشرائية بنسبة 40 بالمئة.

ودفع تدهور المقدرة الشرائية بمنظمة الدفاع عن المستهلك إلى إطلاق صيحة فزع مشددة على أن فئات اجتماعية عريضة سواء منها الهشة أو الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى أنهكتها نفقات استهلاك المواد الغذائية الأساسية.

ويشدد سليم سعدالله – نائب رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك – على أن معدل الأجور الذي لا يتجاوز 800 دينار (حوالي 400 دولار)، يعد من أدنى الأجور في البلدان العربية ما دفع بأكثر من 900 ألف تونسي إلى التداين من البنوك لتغطية عجز أجورهم عن تغطية نفقاتهم العائلية.

وتقول الحاجة زهرة التي يتقاضى زوجها الحاج الشاذلي بن عبدالله جراية تقاعد بـ 700 دينار إنها أصبحت عاجزة عن اقتناء ما تحتاجه من المواد الغذائية وتكتفي بما هو ضروري لسد الرمق.

ويبدو رمضان فقراء تونس ليس كرمضان الميسورين من رجال الأعمال والمحامين والأطباء والقيادات السياسية الجديدة إذ لا يتبضعون إلا من المساحات التجارية الكبرى ولا يكترثون باشتعال الأسعار.

وعلى بعد نحو 25 كيلومترا من حي المنيهلة، يتزاحم الميسورون وسط الفضاء التجاري “كارفور” الواقع في الضاحية الشمالية للعاصمة تونس على اقتناء كل ما يحتاجونه من المواد الغذائية الأساسية والكمالية.

الفضاءات التجارية للأغنياء فقط

ليلى جعيط -سليلة إحدى أكبر العائلات الأرستقراطية- يمتلك زوجها مصنعا للمنسوجات، بلغت قيمة ما اقتنته من مواد لمدة أسبوع واحد 520 دينارا (حوالي 260 دولارا)، وهو ما يعادل أجرة شهر عمل لواحد من سكان حي المنيهلة.

وفيما يكتفي فقراء تونس بمائدة إفطار تتكون من حساء الشعير والمرق والقليل من الغلال الفصلية، تتناضد على مائدة إفطار الأغنياء شتى أنواع أطباق المأكولات والغلال المستوردة مثل الموز والأناناس، إضافة إلى الغلال المحلية مثل الكرز الذي يفوق ثمن الكيلو الواحد منه 14 دينارا (7 دولارات).

وألقى اشتعال الأسعار بظلال سلبية على توازن الإنفاق، إذ تظهر دراسة أعدها منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع منظمة الدفاع عن المستهلك أن 73 بالمئة من نفقات الأسر الهشة تخصص للمواد الغذائية مقابل نحو 30 بالمئة بالنسبة إلى نفقات الأسر الميسورة.

غير أن فوارق توزيع نفقات فقراء تونس وميسوريها تكاد تتساوى خلال رمضان إذ تظهر الدراسة أن نحو 73 بالمئة من نفقات الفقراء ونحو 67 من نفقات الميسورين توجه إلى المواد الغذائية سواء منها الأساسية أو الكمالية.

وعلى الرغم من أن رمضان فقراء تونس ليس كرمضان أثريائها يوجد خيط مشترك بين مختلف فئات المجتمع وشرائحه ويتمثل في ارتفاع مستوى النفقات بنسبة 100 بالمئة وفق بيانات منظمة الدفاع عن المستهلك.

وفي بداية السهرات الرمضانية ينسل الفقراء من الرجال والشباب إلى مقاهي أحيائهم الشعبية حيث لا يتجاوز ثمن فنجان القهوة الواحد 800 مليم (حوالي نصف دولار)، فيما تقصد الأسر الميسورة مقاهي الأحياء الراقية التي يصل فيها ثمن فنجان القهوة الواحد إلى 3 دينارات ونصف دينار (حوالي دولارَيْن).

وإزاء هذا الارتفاع في الأسعار، يتحول الشهر الكريم إلى سوق استهلاكية تكاد تكون مفقودة في المنطقة العربية أول المستفيدين منها تجار المواد الغذائية الضرورية والكمالية وأصحاب المقاهي التي تضج بالساهرين حتى موعد السحور.

وفي تونس التي أنهكتها سنوات خمس عجاف، يتزاحم فقراؤها قبيل الإفطار أمام المخابز منتظرين دورهم لاقتناء الرغيف فيما يتزاحم الميسورون أمام محلات بيع المرطبات.