القضاء في المناطق المحررة.. تضارب في المرجعيات وغياب شبه تام للاستقلالية والتخصص


عاش القضاء السوري منذ سنوات عديدة سبقت الثورة السورية عصر الفساد والرشاوى، ولم يكن بمنأى أبدا عن تدخل السلطات التنفيذية وأصحاب النفوذ في الدولة من قوى أمنية وعسكرية تحكمت في تعيين القضاة وعزل بعضهم، ووصل دورها إلى حد تغيير الأحكام والتأثير بها، واستصغار شأن القضاة وتهديدهم، حتى أصبح أي ضابط أمن في عهد الأسد قادرا على التطاول على القضاء وتحقيره.

ومع بداية العام 2011 دخلت السلطة الثالثة ميدان الثورة، وانتقلت حركة الانشقاقات إلى القضاء في مختلف المحافظات السورية، وسعى المنشقون إلى تأسيس محاكم مدنية في مختلف المناطق المحررة، إلا أن محاولاتهم تلك ارتطمت بالمحاكم العسكرية والهيئات الشرعية التي أقامتها الفصائل العسكرية في كل منطقة. وشهد الشهر التاسع من العام 2012 إطلاق أول تجمع حمل اسم “المجلس القضائي السوري الحر” من قبل أربع قضاة انشقوا عن النظام. لكن مهمة المجلس الأولية انحصرت في توثيق المجازر ولم يعمل بشكل فاعل على الأرض.

في الوقت ذاته تشكلت في المناطق المحررة محاكم شرعية تعتمد على رجال الدين لحل الخلافات البسيطة، ولم تكن لها قوة تنفيذية قادرة على تنفيذ أحكامها سوى بمساندة الفصائل العسكرية لها في المنطقة بعض الأحيان.

مع تطور الأوضاع الميدانية في السنوات الأولى للثورة، وانتشار الفوضى وحصول خلافات بين الفصائل العسكرية ودعوات الأهالي لتشكيل سلطة قضائية موحدة في كل منطقة يخضع لها الجميع وتكون لها سلطة واسعة، نجحت بعض المناطق باتفاق معظم فصائلها وقواها المدنية بالتجمّع وتشكيل مجالس قضائية موحدة، كما حدث في درعا وحمص وحلب، بينما تشكلت عدة محاكم في ريف اللاذقية وإدلب، كان كل منها يتبع لجهة مختلفة.

استقلالية القضاء:

تولت هيئات شرعية مكونة من علماء دين في كل منطقة مسؤولية حل الخلافات في المناطق المحررة، وكان دورها الأساسي يقوم على أمرين: الأول هو فض النزاعات بين المدنيين، ومحاولة الإصلاح بينهم، والثاني هو تسيير الأمور المعيشية من زواج وطلاق وإرث وغير ذلك، ولم يكن لها سلطة واسعة لتنفيذ الأحكام إلا بدعم من الفصائل العسكرية. أما في قضايا الجنايات والقتل والخلاف بين الفصائل فقد اعتمد غالبا على إقامة محاكم ترتضيها الأطراف المتنازعة.

وتعليقا على وضع القضاء في المناطق المحررة، رأى المحامي عروة سوسي، عضو تجمع المحامين السوريين الأحرار، أن “من أهم ركائز أي سلطة قضائية هو استقلالها عن كافة السلطات الأخرى في الدولة من تشريعية وتنفيذية. وما هو موجود في المناطق المحررة من محاكم شرعية، أو هيئات إنما فرضه الواقع العسكري والفوضى الموجودة ليس إلا. وهذه الهيئات والمحاكم الشرعية ليست مستقلة، وإنما تتبع للفصائل العسكرية للمعارضة السورية، كمحاكم الجبهة الإسلامية التي تتبع لحركة أحرار الشام، ومحاكم دار القضاء المنتشرة في المناطق التي تسيطر عليها القوى الإسلامية مثل جيش الفتح، وجبهة النصرة، إضافة للكثير من المحاكم التي تتبع مجالس عسكرية مختلفة”.

ويؤكد السوسي في حديثه لـ”صدى الشام”، أنه “بالمفهوم القانوني والدستوري لا تعد تلك الهيئات والمحاكم سلطات قضائية مستقلة”. وهي وفق رأيه، “لا تضمن لمن يتقاضى أمامها أي حقوق، كما أنها تمارس التعذيب لانتزاع الاعترافات”.

المحامي عروة السوسي: بالمفهوم القانوني والدستوري لا تعد الهيئات والمحاكم الشرعية سلطات قضائية مستقلة. وهي لا تضمن لمن يتقاضى أمامها أي حقوق، كما أنها تمارس التعذيب لانتزاع الاعترافات.

وحول سبب غياب القضاة والمحاكم عن المناطق المحررة، أكد السوسي أنه “من غير المسموح في تلك المناطق التي سيطرت على أغلبها القوى والفصائل الإسلامية، تطبيق أي قانون غير الشريعة الإسلامية. وهي لا تدار من قبل رجال قانون من محامين وقضاة منشقين، وإنما تدار من قبل رجال دين لم يخضعوا لدراسة القانون والأحكام بشكل كاف” وفق ما يرى.

من جانب آخر، يرى عبد الفتاح ناصر، وهو ناشط حقوقي يقيم في المناطق المحررة، أن الفراغ الحاصل في المناطق المحررة “دفع القوى العسكرية لسد الفراغ من خلال إنشاء هذه الهيئات، ولم يكن بدافع السيطرة غالبا، خاصة في ظل عجز مؤسسات الثورة السورية في الخارج عن بناء جسم قضائي فاعل على الأرض، وتلكؤها في دعم هذا المشروع”.

ويؤكد ناصر أنّ “تطور تجربة هذه المحاكم واتفاق فصائل كبيرة في بعض المناطق خفف من الفوضى”، مستشهدا بالعديد من محاولات القصف التي شنها النظام السوري وحلفاؤه على هذه المحاكم بدافع تعطيلها وخلق الفوضى، فقد استهدفت الغارات الروسية مجلس القضاء في مدينة إدلب بتاريخ العشرين من كانون الأول الماضي. وتكرر ذلك في التاسع من كانون الثاني الفائت. حينما طال قصفٌ مماثل محكمة دار القضاء في معرة النعمان، بستة صواريخ فراغية. وأدت هذه الهجمات الجوية لتدمير مقرات المحاكم، فضلاً عن وقوع عشرات الضحايا المدنيين.

خلافات تعطل الإجماع على المحاكم في ادلب:

يعتبر ريف إدلب من أول المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد. ورغم كونها المحافظة الوحيدة المحررة بشكل شبه كامل، لم تستطع الفصائل والقوى المدنية والهيئات الإجماع على هيئة قضاء موحدة. ويعتبر تأسيس “الهيئة الإسلامية” في بداية العام 2014 في بنش من قبل معظم الفصائل، الخطوة الأولى باتجاه تحقيق ذلك، إلا أن انسحاب جبهة النصرة بعدها وتشكيلها دورا للقضاء في مناطق خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب فتح المجال لكل منطقة لتشكيل محكمتها الخاصة بها.

ويؤكد الناشط الإعلامي في مدينة كفرنبل بلال بيوش، أنّ “تعدد المحاكم في محافظة إدلب أدى لحدوث فوضى وتصادم فيما بينها من خلال اعتراف البعض بمحاكم معينة وعدم رضاه بأخرى، وهو ما أدى لحدوث نزاعات بين المدنيين والفصائل على حد سواء”.

بلال بيوش: تعدد المحاكم في محافظة إدلب أدى لحدوث فوضى وتصادم فيما بينها من خلال اعتراف البعض بمحاكم معينة وعدم رضاه بأخرى، وهو ما أدى لحدوث نزاعات بين المدنيين والفصائل على حد سواء.

واستشهد بيوش في كلامه على أحداث مدينة معرة النعمان الأخيرة بين الفرقة 13 وجبهة النصرة، حيث لم يعترف أي فصيل بمحاكم الطرف الأخر، وحتى الآن لم تحل هذه القضية.

وتنتشر في محافظة إدلب العديد من المحاكم التي تعمل بشكل منفرد مثل “محكمة كفرنبل الشرعية”، و”الهيئة الإسلامية الشرعية” و”محكمة معرة مصرين” و”محكمة مدينة إدلب” وغيرها، بالإضافة إلى دور القضاء التي أقامتها جبهة النصرة.

إهمال وضعف إمكانيات في درعا:

رغم قدرة الفصائل في درعا على تشكيل قضاء موحد اعترفت به معظم الفصائل الفاعلة في المحافظة تحت اسم “محكمة دار العدل”، والتي توسعت فيما بعد بثلاثة فروع لها، أحداها في بلدة غرز، والثانية في مدينة نوى غربي درعا، والثالثة في القنيطرة، إلا أنها تفتقر وفق أبو حيدر الكفري، المسؤول الإعلامي للمحكمة، إلى” التمويل والدعم المالي المنتظم، وهو ما يحد من توسعها وتطويرها ويهدد استمراها”.

تفتقر “محكمة دار العدل” في درعا إلى التمويل والدعم المالي المنتظم، وهو ما يحد من توسعها وتطويرها ويهدد استمراها.

ويؤكد “الكفري” من خلاله حديثه لـ”صدى الشام”، أنه “لا توجد جهة ثورية راعية تمول دار العدل وتغطي أعباء العمل القضائي ومتطلباته. فقسم من مدخولها ذاتي، وقسم يأتي على شكل تبرعات غير منتظمة من بعض الفصائل والجهات الثورية، لكنه لا يغطي إلا القليل من نشاطات دار العدل والمهام الملقاة على عاتقها”. كما يؤكد أن جميع الفصائل المنتشرة في المنطقة تخضع لحكم المحكمة، بل إن بعض الفصائل غير الموقعة على ميثاق المحكمة تمتثل للأحكام القضائية الصادرة عنها، ما عدا الفصائل المبايعة لتنظيم الدولة الإسلامية.

وحول اتهامات البعض لدار العدل بكونها حكرا على الشرعيين، قال المسؤول الإعلامي للمحكمة أن “هذه الاتهامات غير صحيحة”، ودلل على كلامه بالقول إن “المحكمة تقدم الكفاءات العلمية، وقد أقرت دار العدل القانون العربي الموحد الموافق للشريعة بعد تصويب بعض المواد فيه، وجعلته مرجعا عاما للقضاء الفصلي والإجرائي. وهذا القانون قام على وضعه مجموعة من الحقوقيين لا الشرعيين. وكأمثلة عملية على ذلك فإن قاضي النيابة العامة في محاكم دار العدل قانوني محامٍ، وذلك شرط في قاضي النيابة، وكذلك نائب رئيس المحكمة قانوني، ورئيس محكمة الجنح، وقضاة كثيرون، ومستشارون قضائيون، كلهم محامون”.

وكانت دار العدل الموحدة في درعا قد نشأت من اتحاد أربع محاكم في المنطقة، وتعرض قضاتها لجملة اغتيالات طالت أبرز مؤسسيها. وكانت أبرز القضايا التي واجهتها مؤخرا هي قضية المنتسبين “لتنظيم الدولة” في درعا، حيت أصدرت المحكمة عشرات الأحكام بحقهم، وأطلقت سراح من لم يثبت اشتراكه في القتال.

كما يحسب “لدار العدل الموحدة” قدرتها على حل العديد من المشاكل سابقا مثل النزاع الذي حصل بين “حركة المثنى” و”شباب السنة”، والخلاف الذي حصل بين “جيش اليرموك” و”لواء التوحيد” حول مقتل أحد الأشخاص على معبر القذف مؤخرا، والمشكلة التي وقعت بين “فرقة الفلوجة” و”شباب السنة”، بحسب ما يؤكده “الكفري”.

نماذج مبكرة في حلب أنهكها تدخل الفصائل:

منذ بداية دخول قوات المعارضة إلى مدينة حلب وريفها تداعى لتشكيل مجلس القضاء الموحد مجموعة كبيرة من المحامين الأحرار والقضاة المنشقين عن النظام والشرعيين من الكتائب الموجودة.

ويعتبر البعض إنشاء “المجلس الأعلى في القضاء الموحد” أول التجارب الناجحة وأقدمها، لا سيما أنه ضم عددا من المختصين وأصحاب الشأن في القضاء وشارك فيه محامون ورجال علم بارزون، كما ضم أغلب المحاكم الموجودة في ريفي حلب وإدلب. وقد اتفق “المجلس الأعلى في القضاء الموّحد”، وبعد التشاور مع كل القوى والمختصين، على تطبيق القانون العربي الموحد المستمد من الشريعة الإسلامية.

لكن هذا المجلس بتاريخ 18/11/2013 علّق عمله كاملا في جميع الدوائر القانونية التابعة له في المدينة والريف بعد عام ونصف على تأسيسه، وأرجع المجلس في بيان له، سبب ذلك إلى اقتحام عناصر تتبع لفصيل “تجمع استقم كما أمرت” مبنى مجلس القضاء الموحد، وسرقة الذخيرة والأسلحة الموجودة في مقره لجهة الشرطة التابعة له، وتهريب بعض السجناء، وإطلاق الرصاص بشكل مباشر دون إصابات. وطالب البيان يومها بإعادة هيكلة جميع الأجسام القضائية الموجودة في حلب بجسم قضائي واحد.

وشهدت حلب بعدها إقامة محاكم شرعية منفصلة في كل منطقة، ودعم كل فصيل المحكمة الخاصة بمنطقته، كما يؤكد أحمد السالم وهو أحد أبناء حي بستان القصر، والذي اضاف أن الهيئات الثورية والفصائل العسكرية “لم تستطع تشكيل جسم قضائي مستقل”، موضحا عدم ثقته بشكل شخصي بحال هذه المحاكم، لا سيما أنها “تخضع لإرادة الفصائل العسكرية ولا يوجد فيها قضاة ذوو خبرة كافية” وفق رأيه.

لاحقا أعلنت سبعة محاكم في حلب في تموز من العام الماضي تشكيل مجلس “القضاء الأعلى” في مدينة حلب، إلا أن الأمر لم يختلف كثيرا بحسب ما يؤكده الناشط الإعلامي في المدينة مصطفى الشمالي، لأن “بعض الفصائل الإسلامية مثل جبهة النصرة لا تخضع لأحكام المجلس مع وجود دار القضاء التابعة لها”.

قضاة وشيوخ:

 

تكمن المشكلة الأساسية للقضاء في المناطق المحررة حاليا باختلاف الأحكام وتضاربها بين محكمة وأخرى. وقد أرجع المسؤول والقاضي الشرعي في “الهيئة الشرعية” بحلب، الشيخ مضر رضوان، في مقابلة سابقة مع “صدى الشام”، سبب ذلك إلى “ضعف التواصل بين المحاكم الشرعية”، كما أكد أن “(تقنين الشريعة) الذي هو خلاف فقهي حرمّه بعض العلماء وأجازه البعض الآخر، والذي تطبقه الهيئة الشرعية والمؤسسة الأمنية، مقابل رفض تطبيقه من قبل جبهة النصرة وحركة أحرار الشام، هو أحد أهم أسباب عدم التوحد”.

تكمن المشكلة الأساسية للقضاء في المناطق المحررة حاليا باختلاف الأحكام وتضاربها بين محكمة وأخرى، حيث لا تعتمد الجهات القضائية قانونا واحدا، وغالبا ما يعود الحكم لاجتهاد القاضي.

ويوضح بالقول: “لا خلاف على الحدود، لكن الخلاف يقع في التعازير الفضفاضة، والمختلفة باختلاف الفقيه”، مشيراً إلى أن “نقص عدد القضاة المؤهلين، وخصوصية المرحلة تفرض الأخذ بالتقنين، وهو ما يفسر غياب الحكم الواحد لدى هذه الجهات التي لا تعتمد قانوناً واحداً في مدينة حلب، فالحكم يعود هنا لاجتهاد القاضي”.

في حين يرى المحامي عروة السوسي أن مرّد ذلك هو “غياب القضاة المؤهلين حيث لا يحتاج الأمر لتصبح قاضيا حاليا إلا لدورة شرعية تدريبية لا تجاوز مدتها 45 يوما، بينما يحتاج الأمر في الواقع سنوات من التحصيل الأكاديمي ودراسة عميقة للجنايات وأسبابها وتحليلها. وهو أمر قد لا يدركه رجال الدين”.

ويؤكد السوسي أن هناك فرق كبير بين طلب العلم الشرعي في وقتنا الحاضر، وبين وظيفة القاضي ودور المحامي المتمرس، وهو ما لا يدركه مسؤولو هذه المحاكم.

وينظر البعض إلى القضاء حاليا كجزء من السلطة التي يجب اغتنامها لتثبيت سيطرة هذه الجهة أو تلك، ويرى البعض أن سبب عدم قيام سلطة موحدة يعود بالدرجة الأولى لتقصير مؤسسات المعارضة، وضعف النشاط المدني، وقلة عدد القضاة المنشقين عن وزارة العدل، وعدم إفساح بعض الفصائل المجال للقضاء للقيام بدوره، وهو ما أثر بشكل كبير على عدم استقرار المناطق المحررة وتطاول فصائل على أخرى.

لا يمكن الحديث مؤخرا عن فشل مطلق في مثل هذه الظروف مع وجود تجارب جيدة في بعض المناطق، إلا أن غياب المنهجية وخطط العمل والتطوير هي أبرز السلبيات في سلطة تعتبر أساس قيام الدول المتحضرة وطريقها لبناء مجتمع عادل.