العمال “الصغار”…طفولة سوريا الموءودة


دفعت ظروف الحرب وقلة فرص العمل، الأطفال في الداخل السوري، نحو العمل في مهن توصف بـ”الخطرة”، حيث تزايدت أعدادهم في ورش الحدادة وتصليح السيارات، كما دخلوا مجال تهريب البضائع عبر الحدود، وعملوا في تكرير النفط، إضافةً إلى تجنيدهم في ساحات القتال.

ومن جانب آخر، بحسب تقارير، فقد هجّرت الحرب حوالي 7.6 مليون سوري عن بيوتهم، وهو ما أدى إلى حرمانهم من مقومات الحياة الأساسية التي كانوا يملكونها في مناطق سكناهم، ليتحولوا إلى نازحين يطلبون المعونات الإنسانية، أو إلى لاجئين في مخيمات دول الجوار يعيشون ظروف اللجوء القاسية اقتصادياً واجتماعياً، مما يجبرهم على دفع أطفالهم إلى العمل بغية تأمين قوت المعيشة اليومي.

تتباين نسب تشغل الأطفال بين المناطق التي يقطنها السوريون، لكنها في أحس حالاتها، تُعتبر “كارثية”. فبعد أن كانت الظاهرة مخفية خلال السنوات الماضية، باتت اليوم من أكثر الظواهر الملازمة للسوريين وضوحاً، سواء في مناطق النظام أو مناطق المعارضة. كما ترافق هذه الظاهرة اليوم اللاجئين السوريين في دول الجوار، وفي المخيمات الحدودية.

 

عمالة الأطفال في مناطق النظام

 

التصريحات الأخيرة لمسؤولي النظام كشفت عن تضاعف نسبة عمالة الأطفال في سوريا من العام 2011، حيث قال عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية، أكرم النقاش، في تصريح لوسائل إعلام محلية، إن “التقديرات الحالية تشير إلى تضاعف نسبة عمالة الأطفال منذ 2011، حيث ارتفعت النسبة من 10 إلى 20%. في حين تعتمد 50% من الأسر في دول اللجوء على أحد أطفالها في مصدر عيشها، أي أن أكثر من طفل في الأسرة الواحدة يعمل” حسب زعمه. وبالتالي فإن “النسبة الحقيقية أكبر من التقديرات”، مؤكداً “عدم وجود أية إحصائيات دقيقة حول الموضوع”.

 

ووفقاً لقانون العمل رقم 17 للعام 2010، فإنه “يمنع تشغيل الأحداث قبل إتمامهم 15 عاماً. ويحظر تشغيل الحدث أكثر من 6 ساعات يومياً، على أن يتخللها فترات راحة. كما حظر القانون تشغيلهم في الليل”.

 

كما ينص القانون رقم 17 لعام 2010، على “التغريم بمبالغ مالية تتراوح بين 25 – 50 ألف ليرة سورية، كل من يخالف أحكام القانون، ويشغل الأطفال”.

 

الباحثة الاجتماعية رؤى الشاهر وفي تصريح خاص لـ”صدى الشام”، وجدت أنه “من الصعب تطبيق القوانين الخاصة بحظر تشغيل الأطفال، لأن شروط تطبيقها ليست متوفرة سواء في مناطق المعارضة أو النظام. حيث لا توجد جهات وهيئات مستقلة ترعى الأطفال الفقراء وتقدم لهم المساعدة”، مضيفة: “المشكلة ليست فقط في الخلل بتطبيق القوانين، وإنما في توفير شروط حماية الأطفال الذي يجبرون على العمل، لا سيما من قبل ذويهم”.

 

وبحسب الشاهر، فإن “خير دليل على عدم وجود ضوابط لعمل الأطفال في مناطق النظام حصراً، كونه يدعي انه لديه الأجهزة القادرة على ضبط كل شيء، الإعلانات التي يضعها أصحاب المحال التجارية والورش والتي تطلب أطفالاً للعمل، رغبة من صاحب العمل دفع أجور أقل وضمان استمرار العامل في عمله، وعدم تعرضه للاعتقال أو السوق للخدمة الإلزامية”.

 

أجور بخسة

 

“فوق الموته عصة قبر”، هكذا وصفت (أم لؤي الدمشقية)، حالها بعد مقتل زوجها بقذيفة هاون في منطقة الميدان، قائلةً: “اضطررت لإخراج ابني من المدرسة وهو في الصف الخامس، للعمل في ورشة خراطة، لإعالتي أنا وأخته التي لم يتجاوز عمرها 4 أعوام”. مضيفةً: “رغم معرفة صاحب العمل بحالنا إلا أنه يستغل الظرف بتشغيل طفلي لمدة 11 ساعة يومياً، وبأجرة 550 ليرة فقط”.

 

مراسل “صدى الشام” في دمشق، جال بين المناطق التي تنتشر فيها الورش التي تشغل أطفالا بشكل كبير، والتي هي “البرامكة – جسر الرئيس – كراجات الست – البحصة”، ليحصل على معلومة تفيد بأن أجرة العامل الصغير لا تتجاوز في أحسن الأحوال 600 ليرة سورية بعدد ساعات لا يقل عن 10 ساعات يومياً.

 

أجرة العامل الصغير في مناطق الورش في دمشق، لا تتجاوز في أحسن الأحوال 600 ليرة سورية بعدد ساعات لا يقل عن 10 ساعات عمل يومياً. ومهنة البائع الجوال العامل لحساب شخص معين، هي الرائجة.

 

وبحسب المراسل، فقد “كانت مهنة البائع الجوال العامل لحساب شخص معين، هي الرائجة، وكذلك ميكانيكي – صانع في محل أو مطعم”، مضيفاً أن “أغلب الأطفال العاملين هم من النازحين إلى دمشق، دفعتهم عائلاتهم إلى سوق العمل لتأمين قوتهم. وغالبيتهم فقدوا أحد أبويهم خلال الحرب”.

 

وخلال لقائه بعض الأطفال، قال مرهف، 13 عاما، بائع جوال على أحد أرصفة كراجات الست زينب في العاصمة دمشق: “تركت المدرسة في الصف الرابع بعد أن تعرض والدي للإعاقة بسبب شظية، ولدي اخ وأخت، تؤامان بعمر 3 سنوات. لذلك طلب مني والدي بيع العلكة والبسكويت أو أي شيء أخر في الكراجات لتأمين الطعام لأسرتي”، مضيفاً “ليس هاك مبلغ محدد أحصل عليه، وهو غالبا بين 200 و500 ليرة، حسب حركة الناس والازدحام”.

 

ومن ناحية أخرى، فقد انتشر تجنيد الأطفال في مناطق النظام، ضمن ما يسمى “الدفاع الوطني”، عبر إغرائهم بالمال والسلطة، وإغراء ذويهم بالعطاءات التي سيحصلون عليها في حال قتل ولدهم.

وقد ذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”، في تقريرها الأخير الذي حمل عنوان “لا مكان للأطفال”، إن “الحرب في سوريا خلفت 2.5 مليون طفل لاجئ قتل الكثير منهم، كما تم تجنيد أطفال للقتال، بعضهم لا تزيد أعمارهم عن 7 سنوات منذ 2011”.

وبحسب التقرير، فإن “الأطراف المتحاربة تجند الأطفال الصغار الذين لا تزيد أعمار بعضهم على 7 أعوام”، مؤكداً أن “التحقيقات أثبتت أن الأطفال الذين جندوا في 2015 تقل أعمارهم عن 15 عاما، حيث يعرضون عليهم هدايا ورواتب تصل إلى 400 دولار شهرياً”.

 

مناطق المعارضة ليست أفضل

 

لا يقتصر العمل مع العسكر على مناطق النظام فقط، بل ينتشر بشكل أكبر في مناطق المقارضة. وبحسب الصحفي رزق العبي من مدينة كفرنبل، في حديث خاص لـ”صدى الشام”: “لاحظنا في الفترة الأخيرة، اتجاه الكثير ممن هم في سن 13 حتى 18 سنة، للعمل في مهن خطيرة، وأهمها العسكرة. فمنهم من يحمل سلاحه ويقاتل على جبهات القتال، ومنهم من يعمل في الأمور الأقل خطوة، كمطابخ الألوية العسكرية، أو في التوثيق الإعلامي. وقد ظهر هذا الأمر بشكل أكثر سوداوية من خلال الأرقام التي سُجلت خلال الشهر الماضي لأعداد قتلى المعارضة ضد النظام، حيث بلغ عدد قتلى ريف إدلب ممن هم دون الـ 18 سنة، على جبهات حلب، خلال شهر واحد، قرابة 27 فتى”.

 

العبي: بلغ عدد قتلى ريف إدلب ممن هم دون الـ 18 سنة، من المقاتلين مع فصائل المعارضة على جبهات حلب، خلال الشهر الماضي، قرابة 27 فتى

 

بدوره، الناشط الإعلامي أحمد محلي من حلب وفي حديثه لـ”صدى الشام”، ذكر أن “عمالة الأطفال في مناطق المعارضة بحلب تتجلى بشكل كبير في مجال الصناعة والتجارة، حيث هناك الكثير من الأطفال الذي يعملون في محلات تصليح السيارات، ورشات الخياطة، وورشات الأحذية. كما يعملون في الدكاكين التجارية طباعة، ويضاف إلى ذلك أنهم يعملون كباعة متجولين”.

 

وبسبب تفاقم عمالة الأطفال في مناطق المعارضة قامت بعض الهيئات والمنظمات الإنسانية بفتح دور لتعليم الأطفال، بغية إخراجهم من سوق العمل، وإعادتهم لطفولتهم، دون أن يكون لهذا الأمر أية فائدة حتى الآن، وفقاً لما أكد ناشطون هناك.

 

دول اللجوء لم تنصف

 

بعض دول اللجوء التي حل بها الأطفال السوريون لم تكن منصفه لهم، حيث لم تؤمن لهم المدارس، ولم تحمهم من الاستغلال والانخراط في العمل منذ الصغر. وقد حذرت اليونيسيف في عدة تقارير لها من أن “تفاقم العمالة بين الأطفال السوريين وصلت لمراحل خطيرة”.

 

لكن بحسب الباحث الاجتماعية رؤى الشاعر، فإن “اليونيسيف تطبع التقارير وتتحدث بلغة الأرقام. لكن النسبة ترتفع كل عام عن العام الذي قبله، فلا حلول جذرية على الأرض”.

 

وبحسب الشاعر، فقد “ذكرت اليونيسيف أن أربعة أطفال سوريين من أصل خمسة يعانون من الفقر، بينما يقبع 2.7 مليون طفل خارج المدارس، فيما يعمل ثلاثة أرباع الأطفال السوريين في العراق لتأمين قوت عائلاتهم. هذا ما ورد في التقرير، فهل حلت المسألة حتى الآن؟ بالطبع لا”.

 

تقارير اليونيسيف: يعمل ثلاثة أرباع الأطفال السوريين في العراق لتأمين قوت عائلاتهم. كما أن نصف الأطفال السوريين اللاجئين في الأردن يعتبرون المعيل الأساسي لعائلاتهم.

 

“وبحسب ذات المؤسسة”، تقول الشاعر “فإن نصف الأطفال اللاجئين في الأردن يعتبرون المعيل الأساسي في العائلة، وفي سوريا فإن ثلاثة أرباع العائلات تعتمد على الأطفال في تأمين دخلها. أما في لبنان، فقد وجدت منظمة حقوقية أخرى، وهي “كير”، خلال دراسة لها، أن الأطفال اللاجئين في لبنان يعملون 12 ساعة يومياً، تحت ظروف بائسة واستغلالية بشكل خطير، دون توفير معدات السلامة الملائمة لهم”.

 

ووفق الشاعر، فإن “الطامة الأكبر هي تركيا، حيث لا توجد إحصائيات محددة عن عمالة الأطفال السوريين فيها. إلا أن دراسة صادرة عن مركز الجمهورية الديمقراطية للدراسات، بيّنت أن مدينة غازي عينتاب هي من أكثر المدن عمالة للأطفال السوريين، وذلك لأن المدينة تعتبر تجمعاً كبيراً للسوريين”.

 

عمالة الأطفال تدمر الاقتصاد

 

“أكثر من 50% من أطفال سوريا الذين هم في سن التعليم لم يلتحقوا بالمدارس خلال العام 2014 – 2015″، وفقاً لما كشف تقرير المركز السوري لبحوث السياسات والأبحاث.

 

المركز وفي تقريره، كشفت عن الفاقد في رأس المال البشري نتيجة خسارة “سنوات التمدرس”، والذي قدر مع نهاية 2015 بـ 24.5 مليون سنة دراسية، تقدر كلفتها بحوالي 16.5 مليار دولار، مشكّلة خسارة في رأس المال البشري المرتبط بالتعليم.

 

الباحثة الاجتماعية روئ الشاهر، اعتبرت الأرقام التي تحدث عنها تقرير المركز “عادية” كون سوريا تشهد حربا منذ 5 سنوات. وأن “هذه النتائج تأتي طبيعية في ظل الدمار القائم في هذا البلد، والتي من المعلوم أن الأطفال يكون المتأثر الأكبر منه، سواء من حيث العمل أو التسرب من المدارس”.

باحثة اجتماعية: استمرار الحرب سنة واحدة أخرى يعني أن جيلا كاملا من الأطفال السوريين سيكبر دون أدنى حد من التكوين العلمي والمهني والصحي. وهو ما سيسفر عن جيل من العمالة المهنية ضعيفة التعليم والمهارة والإنتاجية

 

وبحسب الشاهر، فإن “الوضع غير الطبيعي في الحالة السورية يقود إلى توقعات بتدمير شامل لمستقبل أطفال سوريا في حال استمرت هذه الحرب عاماً أخر. حيث أن جيلا كاملا سيكبر دون أدنى حد من التكوين العلمي والمهني والصحي. وستسفر هذه الظاهرة على المدى الأبعد عن جيل من العمالة المهنية ضعيفة التعليم والمهارة والإنتاجية، سيشكل كتلة كبيرة من القوة العاملة السورية، تفتقر إلى العلم سواء من الناحية المهنية أو التعليمية”.

 

مقترحات لعلاج الظاهرة

 

الباحث والأكاديمي شوقي محمد، وفي دراسة له، اقترح لمعالجة عمالة الأطفال في سوريا، ضرورة “تكاتف منظمات المجتمع المدني وهيئات حماية حقوق الطفل للعمل سوية بهدف إظهار خطر الاستمرار في تشغيل الأطفال وحرمانهم من التعليم، سواء عليهم مباشرة أو على مستقبلهم لاحقاً. واتخاذ السبل اللازمة لنشر الوعي من خلال إصدار نشرات أو إقامة ندوات تهدف لمكافحة هذه الظاهرة الأخذة بالتزايد مع تزايد معدلات الفقر والتسرب من المدارس”.

 

ومن الحلول التي اقترحها محمد، “توسيع الطاقة الاستيعابية للمدارس في المناطق التي شكلت ملجأً للنازحين، بهدف توفير التعليم اللازم لأبنائهم، مع تقديم كل الدعم المالي والعيني لعوائلهم للحيلولة دون الاعتماد على أطفالهم لتوفير الدخل اللازم لمعيشتهم”.

وطالب محمد بـ”القضاء على الثغرات القانونية فيما يخص قوانين عمل الأطفال، وتنفيذ كامل الإجراءات العقابية المنصوص عليها في القانون بعد تشديدها على أرباب العمل ممن يرون في تشغيل الأطفال عمالة رخيصة لتدني أجورهم وإمكانية تشغيلهم في أعمال متعددة بنفس الوقت”. كما طالب بتفعيل القوانين الخاصة بمنع تسرب الأطفال من المدارس قبل إنهاء مرحلة التعليم الأساسي ومعاقبة أولياء الأمور من الذين لا يلتزمون بهذا القانون.

ولمنع ظاهرة عمل الأطفال، بحسب الباحث، “لا بد من الحد من تفاقم المشكلات الاقتصادية في البلاد، كالتضخم والبطالة وتوقف الإنتاج وتدهور قيمة العملة وارتفاع الأسعار، باعتبارها كلها مقدمات وأسباب تؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر، وبالتالي زيادة في أعداد الأطفال المتوجهين إلى سوق العمل.

وعن الأطفال اللاجئين في دول الجوار، ذكر محمد أنه “لا بد من مطالبة المنظمات الدولية والأممية وتلك التي تعنى بشؤون الطفل، بضرورة تقديم كل العون اللازم للأطفال وذويهم في مخيمات اللجوء، بدءاً من الدعم المالي وتخصيص دخل بديل عن عمل الطفل للأسر الفقيرة، مع تقديم المعونات الإنسانية لهم بشرط عدم تشغيل أطفالهم وضرورة إلحاقهم بالمدارس”.