الحل ليس سورياً.. لكنه يحتاج قبولاً سورياً


1 من 2

لا بد من الانطلاق من عنصرين حين يجري تناول مسألة الحل السياسي في سورية، العنصر الأول يتمثّل في أن الوضع يشهد حالة استعصاء، حيث لم تعد السلطة قادرة على الحسم العسكري بعد أن حوّلت الثورة ضدها إلى صراع مسلح، رغم كل الدعم (وهو هائل) الذي تتلقاه من إيران وروسيا، وهو لا يتعلق بالتسليح فقط، بل يتعلق بالإمداد المالي، وخصوصاً بالمقاتلين الذين باتوا يشكلون جيشاً كبيراً يخوض الحرب ضد الثورة في كل مناطق سورية. كما أن الكتائب المسلحة مفككة ودون سلاح كافٍ، من حيث الكم والنوعية، وخصوصاً بعد أن زُرعت جبهة النصرة وداعش وجيش الإسلام بدعم سلطوي وإقليمي. وبالتالي فإن “انتصارات” السلطة تبقى محدودة ومؤقتة، كما أن انتصارات الثورة تظل عرضة للانتكاس. ولهذا نعيش حرب “طحن” منذ سنة ونصف دون نتيجة حقيقية. هذه الحالة هي التي تفضي إلى القول بالاستعصاء القائم.

العنصر الثاني يتعلق بأن القوى الإقليمية والدولية، التي تقول أنها “أصدقاء الشعب السوري”، لا تريد انتصار الثورة. بعضها يريد استمرار التخثّر، والتدمير والقتل، وبعضها يريد الوصول إلى اعتبار أن ما جرى هو “حرب أهلية” و”نزاع مسلح” يحلّ بالتوافق، وتحت رعاية دولية. وآخرون يناكفون لاعتقادهم أنهم باتوا خارج “اللعبة”، حيث لن يعودوا متملكين في سورية كما كانوا مع بشار الأسد. وإذا كانت الدول الداعمة للنظام تقاتل بشراسة لكي ينتصر، فإن “أصدقاء سورية” يتقاتلون من أجل تخريب الثورة.

إذا كانت الدول الداعمة للنظام تقاتل بشراسة لكي ينتصر، فإن “أصدقاء سورية” يتقاتلون من أجل تخريب الثورة.

هذه الوضعية تجعل الحل سياسياً، أي ليس عسكرياً. وهذا يعني اقتناع كل الأطراف بضرورة ذلك. وبالتالي لا بد من تلمّس واقعها من أجل فهم ممكنات الحل، والسياق الذي يمكن أن يتم فيه.

“السلطة باقية”

منذ بدء الثورة كان واضحاً أن السلطة لا تريد التنازل وتحقيق أيَّ شكل من أشكال الإصلاح. وهذه كانت أزمة “ربيع دمشق” أصلاً، حيث انكشف خطاب “الرئيس الشاب” بعد فترة وجيزة من حديثه عن الانفتاح والتغيير والحرية والرأي الآخر. وأعيد إنتاج النظام القديم في شكل جديد، حيث جرى التخلص من “الحرس القديم” لمصلحة حرس أشدّ تمسكاً بطابع السلطة الاستبدادي الشمولي، بعد أن تقدمت فئات نهبت القطاع العام والدولة لكي تسيطر على الاقتصاد، وكانت من أجل ذلك تكرس استبدادية السلطة. لهذا ما حصل في السنوات العشر التي سبقت الثورة هو تحسين شكلي في آليات السلطة القمعية. وحين بدأت الثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين قررت السلطة المواجهة وليس “التنازل” من أجل الإصلاح. ورغم الجهود التي استمرت أشهراً من قبل أردوغان من أجل الإصلاح (حيث كانت علاقته بالسلطة قوية وحققت امتيازات اقتصادية كبيرة)، لم تتراجع السلطة عن قرارها المتعلق بالحسم بكل العنف.

ما كان يحكم الفئات الماسكة بالسلطة (آل الأسد ومخلوف وشاليش) هو ما رسّخه حافظ الأسد طويلاً، ليس فقط عبر تشكيل السلطة بطريقة لا تسمح بتفككها، بل تبقيها “تحت السيطرة”، بل عبر الانطلاق من أن سورية هي “ملكية وراثية”، وأنها “مُلْك” خاص.

ما كان يحكم الفئات الماسكة بالسلطة (آل الأسد ومخلوف وشاليش) هو ما رسّخه حافظ الأسد طويلاً، ليس فقط عبر تشكيل السلطة بطريقة لا تسمح بتفككها، بل تبقيها “تحت السيطرة”، بل عبر الانطلاق من أن سورية هي “ملكية وراثية”، وأنها “مُلْك” خاص. ولقد أتى التوريث ليعزز هذه المسألة ويرسخها. بالتالي كان صعباً تغيير شكل السلطة الأوامري، والخاضع لقرار “الرئيس”. وكان كل نظر إلى تغيير آليات السلطة يصطدم بفهم أن ذلك يقود إلى انهيارها (كما حدث في الاتحاد السوفيتي، وما بدا ممكناً في الجزائر، كما استنتج حافظ الأسد آنذاك). لهذا كانت ميول التشبث بالبنية التي شكّلها حافظ الأسد هي الأقوى. المستوى الآخر الذي عزّز ذلك يتمثّل في اندفاع آل مخلوف (محمد مخلوف وأولاده) للسيطرة على الاقتصاد، ولتحقيق ذلك احتاجوا إلى البنية الاستبدادية التي تتيح فرض السيطرة دون مقاومة، أو انتقاد، وعبر القوة كذلك. لقد مثّل موت حافظ الأسد اللحظة الحاسمة كي يتقدم محمد مخلوف لكي يهيمن على الاقتصاد والدولة بعد أن كان حافظ الأسد يمنع ظهوره السياسي، ويحجّم من دوره، رغم أنه أوكل إليه بأهم مؤسستين اقتصاديتين، مؤسسة التبغ (الريجي)، والمصرف العقاري. ولهذا عرف كيف يبقي بنية الدولة التي أسسها حافظ السد، وأن يُخضعها بما يسمح بتحقيق سيطرته على الاقتصاد، ونجح في ذلك خلال السنوات السبع من حكم بشار الأسد. وخلال ذلك تشكّل تحالف أمني مالي بات هو المتحكم بالقرار السياسي، وبمصير الدولة ككل.

هذا النشاط المافياوي الذي بات يتحكم به آل مخلوف كان يحتاج إلى دولة “بوليسية” وليس إلى دولة ديمقراطية، وهي الدولة التي أسسها حافظ الأسد لكي تكون وراثة لأبنائه، فباتت “وراثة” لآل مخلوف. لهذا كان رامي مخلوف هو الذي أعلن بأنهم (وهنا يعود الأمر للعائلة وليس للدولة) قرروا خوض الحرب إلى النهاية (بالتحالف مع ماهر الأسد ورؤساء الأجهزة الأمنية الأساسية). وهو أمر نتج عن معرفتهم بأن أي قبول بالتغيير أو الإصلاح سوف يطال مصالحهم هم أولاً، وبالتالي ينهي السيطرة الاقتصادية التي تحققت لهم قبل بضع سنوات فقط.

وربما كان خوف النظام في إيران من دور أميركي للتغيير يدفع إلى تأكيد التمسك بعدم تحقيق الإصلاح، والدفاع عن السلطة إلى النهاية.  بالتأكيد لمصلحة دعم حزب الله في لبنان، لكن لخدمة تعزيز السيطرة على السلطة ذاتها. لهذا تقدمت حين ضعفت الدولة وباتت عاجزة عن المواجهة، وأراد بعضها التفاوض، أي نهاية سنة 2012، من أجل أن ترسل قوات تابعة لها لمنع سقوط النظام ومن أجل هزيمة الثورة.

في هذه الوضعية لم تجد السلطة أي إمكانية لحل وسط، أو حل يفتح على انفراج ديمقراطي، بل ظلت تتمسك بالحل ضمن السلطة ذاتها، وبالتركيب ذاته. هذا ما فعلته حينما أصدرت “قانون الأحزاب” الذي ربط شرعية الحزب بموافقة وزارة الداخلية. وما فعلته حينما “غيّرت” الدستور، حيث أبقت على مركزيته وهيمنة الرئيس على كل السلطات، بعد أن ألغت المادة التي تتعلق بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع (رغم أنه كان خاضعاً في كل الأحوال للرئيس، أو بالأدق للأجهزة الأمنية). وبالتالي كان واضحاً أنها لا تريد سوى “الترقيع الشكلي” لبنية السلطة ولتكوين الدولة.

هذه الرؤية التي قامت على “المُلْكية” والسيطرة الاقتصادية هي التي دفعت السلطة لحرب شاملة ضد الشعب، ورغم أنها خاضت حربها وفق “خطة” مدروسة (بمساعد خبراء إيرانيين وروس، وُضعت قبيل الثورة بالتأكيد)، وسارت الأمور وفق ما أرادت، من خلال دفع الثورة إلى التسلح و”الأسلمة”، إلا أن تمدد الثورة، واحتقان قطاع كبير من الجيش، والمواجهات العسكرية، كلها أفضت إلى انهيار قوتها “الصلبة” (الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة)، وضعف الأجهزة الأمنية، وكذلك تراجع دور الشبيحة. لهذا باتت تعتمد منذ نيسان/ إبريل سنة 2013 على قوى خارجية (إيران وأفرعها). وأصبحت هذه القوى هي التي تمنع سقوطها (كما صرّح حزب الله، وقادة إيرانيون في الحرس الثوري). وحين ضعف هؤلاء وبات واضحاً أن الأمور تسير على نحو سيء، تدخلت روسيا بكل تطورها التكنولوجي ووحشية سلاحها. هذا ما جعلها رهينة لقوى خارجية: روسيا وإيران. إيران أولاً، ثم روسيا.

الحل خارجي

بعد خمس سنوات، إذن، بات واضحاً أن الحل لم يعد بيد السوريين. فالسلطة باتت تخضع لتحكم إيران أولاً وروسيا ثانياً، ولا شك في أن القوى العسكرية التي أرسلتها إيران (من حزب الله، والميليشيا الطائفية العراقية، ومن الحرس الثوري الإيراني، وكثير من “الشيعة” في أفغانستان وباكستان وغيرها)، والمستشارين والقادة، هي من تحكم في قرار الحرب في سورية منذ تدخلها الى أن تدخلت روسيا التي باتت هي المتحكم الفعلي بالقرار السياسي والعسكري، وليس لا بشار الأسد ولا الطغمة التي تحكم، ويمثّل هو واجهتها. لقد خاض الحرب منذ البدء بتكتيكات ودعم من هؤلاء، واستلزم في المرحلة الأولى ارسال مستشارين لإدارة دفة الحرب، لكن توسع الثورة إلى كل سورية، الأمر الذي وسّع الحاجة لاستخدام الجيش، في الوقت الذي أصبحت الثورة فيه تنعكس على عناصر الجيش، خصوصاً بعد الدمار والقتل في كل مناطق سورية، ومن ثم الانتقال إلى استخدام السلاح من قبل الثورة (بدفع شديد من قبل السلطة على أمل أن يكون ذلك مناسباً لها لكي تسحق الثورة)، والاشتباك المتتالي مع “البنية الصلبة” التي خاضت السلطة عبرها الحرب منذ البدء، أي الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، كل ذلك أدى إلى “استهلاك” تلك البنية، وفي الوقت ذاته العجز عن استخدام وحدات الجيش الأخرى نتيجة ما سبقت الإشارة إليه، الأمر الذي عرّض السلطة للانهيار أواخر سنة 2012 وأوائل سنة 2013، وهي الفترة التي ظهر فيها دور حزب الله (معركة القصير)، ومن ثم الميليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني، ثم روسيا.  ومذّاك بات يكبر وجود كل هؤلاء ليتوضّح أنهم يقاتلون الثورة في كل سورية.

بات واضحاً أن استمرار السلطة بات يعتمد على الوجود العسكري الإيراني وفروعه، لكنه بات كذلك يعتمد على الدعم المالي الإيراني، والتسليح الروسي الممول من إيران، ومن ثم يعتمد على التدخل الروسي المباشر

هنا بات واضحاً أن استمرار السلطة بات يعتمد على الوجود العسكري الإيراني وفروعه، لكنه بات كذلك يعتمد على الدعم المالي الإيراني (رغم أن هناك دول إقليمية ظلت تموّل السلطة خلال الثورة)، والتسليح الروسي الممول من إيران، ومن ثم يعتمد على التدخل الروسي المباشر. بالتالي باتت سورية ورقة بيد إيران، رغم الأهمية الكبيرة التي تحظى بها، حيث أن فقدان السيطرة على دمشق يعني فقدان السيطرة على لبنان وتلاشي حزب الله، ومن ثم تلاشي المساومة الإيرانية مع الدولة الصهيونية، وضعفها في المساومة العالمية مع أميركا. هذا ما جعلها تقاتل بشراسة لاستمرار سيطرتها على سورية. ويبدو أن ما يجعلها متمسكة بشدة ببشار الأسد ومجموعته هو أنها لم تجد من داخل السلطة من يعطيها ما حصلت عليه منه، ومن الواضح أنها لا تثق في الصف الثاني أو الثالث في بنية السلطة، وتعتقد أن أي إبعاد لهذه المجموعة سوف يأتي بفئات ربما تميل أكثر نحو أميركا، فقد كانت مشكلتها مع هذه المجموعة هي ميلها للتفاهم مع أميركا، وكانت مرتاحة من غباء السياسة الأميركية التي صممت على تغيير مستحيل في بنية السلطة. فالسلطة منذ أن هيمن “رجال الأعمال الجدد”، وبات آل مخلوف هم المتحكمون بالقرار (وفق ما أوضحت قبلاً)، ووفق المصالح التي تجعلهم يترابطون مع الرأسمال العالمي، طمحوا لأن يتفاهموا مع “زعيمة الرأسمالية”، لأن هذا وحده هو الذي يسهّل انخراطهم في النمط الرأسمالي. لهذا كانت العلاقة مع إيران هي ورقة من أجل التفاهم، كما كانت تركيا هي الورقة الأخرى (وكذلك قطر). ولقد أقامت علاقاتها الاقتصادية مع تركيا وقطر ودبي أكثر مما أقامت علاقة اقتصادية مع إيران (العلاقة التي ظلت ضمن إطار الدولة). ومن ثم باتت سورية بيد روسيا التي تريدها مرتكزاً للعودة الى “الشرق الأوسط”، وضمان قاعدة بحرية على المتوسط، لكي تنهب ما استطاعت كونها باتت إمبريالية في مرحلة أفول الإمبريالية.

بمعنى أن تحوّل السلطة إلى سلطة “رجال أعمال جدد” كان يدفع نحو التفاهم مع أميركا واعتبار كل العلاقات الأخرى جسراً، أو أوراق ضغط فقط. وهذا ما ظهر واضحاً حينما قام ساركوزي بعد وصوله إلى الرئاسة بـ “فك الحصار” الفرنسي عن سورية، وحاول أن يجذبها كما كان الطموح الفرنسي منذ شيراك، لكن موقف السلطة ظهر بوضوح أنها تريد التفاهم مع أميركا.

إن تحوّل السلطة إلى سلطة “رجال أعمال جدد” كان يدفع نحو التفاهم مع أميركا واعتبار كل العلاقات الأخرى جسراً، أو أوراق ضغط فقط

لهذا، ربما يكمن المأزق الإيراني هنا، حيث يمكن أن تقود التسوية في سورية إلى انفلاتها والميل السريع نحو أميركا، رغم تراجع دور أميركا العالمي. وهو خوف ظهر منذ بدء الثورة، التي جرى تفسيرها بأنها “مؤامرة أميركية”، وتصاعد مع تصاعد الصراع، رغم أن قدرتها على التأثير في بنية السلطة لم تكن في البدء كما هي الآن. ولهذا حينما استحكمت ظلت خائفة من انفلات الوضع السوري منها، وهو الأمر الذي يفسّر تمسكها ببشار الأسد ومجموعته بالتحديد، وبالتالي الخوف من المراهنة على آخرين من بنية السلطة ذاتها. فهذه المجموعة سلّمت لإيران نتيجة وصولها إلى لحظة الانهيار نهاية سنة 2012، وليس نتيجة قناعة أو مصلحة.