هل اندثر الإتحاد السوفييتي حقاً.؟!


الثاني والعشرون من أغسطس هو يوم عطلة في روسيا، إنه يوم العَلَم، لكنه يحتل ترتيباً مُتَدَنياً في سُلم العُطلات في البلاد، حيث لن يكون هناك عرض عسكري كما هو الحال في “يوم النصر”. ناهيك عن أن الروس لن يحظوا بيوم عطلة كما يفعلوا في عطلة عيد العمال، العيد الوطني للبلاد، اليوم العالمي للمرأة، أو يوم المدافعين عن الوطن، بالإضافة لعدد من العطلات الأخرى. ومن المستبعد أن يلحظ الزائر لروسيا أن البلاد تحتفل هذا الشهر بالذكرى الخامسة والعشرين لحدثٍ تاريخي هام.

ما الذي جرى قبل ربع قرن من الآن؟! في الثامن عشر من أغسطس عام 1991، توجه أربعة من كبار الضباط السوفييت إلى شبه جزيرة القرم حيث كان الرئيس “ميخائيل غورباتشوف” يقضي عطلته هناك، ووضعوه تحت الإقامة الجبرية. استيقظ السوفييت صبيحة اليوم التالي على خبر إعلان حالة الطوارئ من قِبَلِ لجنة من قادة الجيش والاستخبارات والحزب الشيوعي السوفييتي، غير أنّ الانقلاب ما لبث أن انهار إثر ذلك بثلاثة أيام.

وفي الحادي والعشرين من شهر أغسطس / آب، بدا فشل الانقلاب جلياً، حيث قامت السلطات الروسية على الفور بإزالة تمثال “فيليكس زيزينسكي” مؤسس جهاز الشرطة السرية، من وسط مدينة موسكو. وارتفع العَلَم الروسي ذو الخطوط البيضاء والزرقاء والحمراء فوق مبنى المجلس السوفييتي- الروسي الأعلى وهو أعلى هيئة تشريعية في موسكو. الجدير بالذكر أنه لم يقتل سوى ثلاثة أشخاص في موسكو قبل انتهاء المحاولة الانقلابية.

قبل ذلك بعامين، نجحت سلسلة من الاحتجاجات الشعبية التي قادها نشطاء شباب من الداعمين للديمقراطية، وذلك بإسقاط الحكومات الشيوعية في عدد من دول أوروبا الشرقية. أصبحت هذه الاحتجاجات تُعرفُ لاحقاً باسم ” ثورات 1989، حيث كانت معظمها سلمية. وأطلق المواطنون في جمهورية التشيك على ثورتهم اسم “الثورة المخملية”. فيما استسلمت الأحزاب الحاكمة في تلك البلدان بسهولة. وجاء في العديد من الكتب التي نُشرَت في الغرب وفي عقول بعض المفكرين الروس أن الأيام الثلاثة من شهر أغسطس عام 1991 كانت بمثابة  النسخة الروسية للثورة المخملية وجرى تخليد ذكراها كنهاية للإتحاد السوفييتي.

إلا أنه في حقيقة الأمر، لم تكن تلك الأيام نهاية للإتحاد السوفييتي ولا للثورة المخملية!، إذ إنّه وبعد خمسة وعشرين عاماً يبدو هذا الأمر واضحاً أكثر من أي وقتٍ مضى.

كانت الإمبراطورية السوفييتية قد شهدت في صيف العام 1991، صراعاً عنيفاً استمر لعامين، حيث انتشرت حركات الاستقلال في جميع جمهوريات الإمبراطورية الخمسة عشر ومن بينها روسيا. كانت النزاعات العرقية والحدودية آخذة بالاشتعال في كل مكان، فضلاً عن سفك الدماء. وفيما كان السيد ” غورباتشوف” يتنقل بين الحلول العسكرية والسلمية للأزمة المتصاعدة. لجأ السوفييت للقوة في كل من أذربيجان وجورجيا وليتوانيا، وقتلوا عشرات الأشخاص وخذلوا بمرارة شديدة كل من أراد التغيير. ومع ذلك، فقد رأى المتشددون والذين كانوا يشكلون غالبية القيادة السوفييتية، أن ” غورباتشوف” كان “لينا جداً” في تعامله مع الأزمة. حالهُ حال أي زعيم يحاول استرضاء الجميع، إلا أن معظم الناس كانوا يشعرون بالكراهية تجاه “غورباتشوف”، بيد أن صراع “غورباتشوف” الأشرس كان مع “بوريس يلتسين” وهو زعيم حزبي سابق كان قد انتُخِبَ بشعبية كبيرة في حزيران من العام 1991 كرئيس لجمهورية روسيا ضمن الاتحاد السوفييتي.

وأوجَدَ فشلُ المتشددين بالانقلاب ثغرةَ للسيد “يلتسين” في الوقت الذي كان فيه الرئيس “غورباتشوف” محتَجَزاً في شبه جزيرة القرم، كان ” يلتسين” في موسكو، تحدث الرجل من على ظهر إحدى الدبابات إلى الحشود المعارضة للانقلاب في المدينة. وبعد انتهاء المحاولة الانقلابية، ظهر يلتسين على نطاق واسع كزعيم المقاومة المنتصرة. وصار في وضع يخوّله إصدار الأوامر للسيد “غورباتشوف”.

لدى عودة السيد “غورباتشوف” إلى موسكو يومَ الثاني والعشرين من أغسطس / آب، ومباشرته بتنظيف صفوف داعمي الانقلاب الكثيرين، كان السيد “يلتسين” قد ألغى العديد من تعيينات الشخصيات المحسوبة على ” غورباتشوف” وقام بتعيين رجاله. وعمل أيضاً على التأكد من أنه تم الإغلاق الفِعلي لمكاتب الحزب الشيوعي السوفييتي الذي قام قادته بهندسة الانقلاب، بينما استمر الحزب الشيوعي الروسي بعمله، وبعبارة أخرى، تحرَكَ السيد “يلتسين” للسيطرة على سائر المؤسسات السوفييتية الهامة بدءَ من جهاز الاستخبارات “K.G.B”” وانتهاءَ بمركز قيادة الاقتصاد المُخَطَط.

وفي خريف العام 1991، توالى إعلان جمهوريات الاتحاد السوفييتي لاستقلالها عن الاتحاد، بينما اندفع السيد غورباتشوف والذي كان لا يزال رئيس الإتحاد آنذاك، للحفاظ على وحدة وتماسك الأخير. وفي كانون الأول، اجتمع السيد “يلتسين” بقادة روسيا البيضاء وأوكرانيا واتفقوا على حل الإتحاد السوفييتي. لم يُدعى السيد “غورباتشوف” للاجتماع حتى أنه لم يكن أول من يعلم بقرار حل الإتحاد إذْ أخبره بذلك زعيم روسيا البيضاء بعد أن كان السيد “يلتسين” قد أطلَع جورج بوش الأب الرئيس الأمريكي آنذاك، على الأمر. وفي نهاية المطاف، توجَبَ على السيد “غورباتشوف” أن يستقيل من منصبه كرئيس لأن دولته لم تعد موجودة، حيث انتقلت معظم مؤسساتها وعضوياتها في المنظمات الدولية لتصبح ممثلة لدولة جديدة اسمها “الإتحاد الفيدرالي الروسي”.

اعتقد السيد “يلتسين” ومساعدوه أن ما حدث في روسيا كان أفضل من أي ثورة، حتى من تلك المخملية، وكانوا مُقتنعين أنه من خلال السيطرة على المؤسسات القائمة فإنهم سيجلبون الديمقراطية إلى روسيا على نحوٍ أسرع واقل إيلاماً من أن يدمِروا تلك المؤسسات. كما أنهم لم يفكروا ملياً أنها تتبعُ نظاماً شمولياً قديم العَهد. ولم يُشَكِكوا بامتلاكهم الإرادة والقوة اللازمة لتبديلها.

غير أن ما تلى ذلك أظهر أن تلك المؤسسات أقوى ممن خطَطَ لإصلاحهاـ إذ أنها قاومت التغيير لحوالي عقدٍ من الزمن، وحالما أصبح “فلاديمير بوتين” رئيساً، تم تنظيم هذه المؤسسات بشكلٍ سَهَلَ من تراجع روسيا. واليوم تبدو الحياة في روسيا حيث كل شيء مُسيّس، وفيما يلتفُ الشعب حول بلده وقائده، وبينما استُعيدت الرقابة وحكم الحزب الواحد على نحوٍ فعال، مشابهة جداً لمثيلتها في الاتحاد السوفييتي قبل خمسة وعشرين عاماً.

أمّا لنصب التذكاري لضحايا المحاولة الانقلابية الثلاثة وهو عبارة عن لوحة لا يعرف بوجودها سوى عدد قليل من الأشخاص، فهو في حالة مزرية ، كما تلاشت النقاشات بشأن استبداله بنصبٍ آخر أكثر وضوحا وملائمة، بينما تمّ ترميم تمثال “زيرزينسكي” المتربّع في مكان بارز من حديقةٍ مجاورة لمبنى الكرملين، هذا الصيف وللمرة الرابعة على الأقل خلال السنوات القليلة الماضية. كما يجري الحديث عن نوايا لإعادته إلى مكانه السابق.

رابط المادة الأصلي : هنا.