on
الحل ليس سورياً … لكنه يحتاج قبولاً سورياً
2 من 2
إن تحوّل السلطة إلى سلطة “رجال أعمال جدد” كان يدفع نحو التفاهم مع أميركا واعتبار كل العلاقات الأخرى جسراً، أو أوراق ضغط فقط. وهذا ما ظهر واضحاً حينما قام ساركوزي بعد وصوله إلى الرئاسة بـ “فك الحصار” الفرنسي عن سورية، وحاول أن يجذبها كما كان الطموح الفرنسي منذ شيراك، لكن موقف السلطة ظهر بوضوح أنها تريد التفاهم مع أميركا.
لهذا، ربما يكمن المأزق الإيراني هنا، حيث يمكن أن تقود التسوية في سورية إلى انفلاتها والميل السريع نحو أميركا، رغم تراجع دور أميركا العالمي. وهو خوف ظهر منذ بدء الثورة، التي جرى تفسيرها بأنها “مؤامرة أميركية”، وتصاعد مع تصاعد الصراع، رغم أن قدرتها على التأثير في بنية السلطة لم تكن في البدء كما هي الآن. ولهذا حينما استحكمت ظلت خائفة من انفلات الوضع السوري منها، وهو الأمر الذي يفسّر تمسكها ببشار الأسد ومجموعته بالتحديد، وبالتالي الخوف من المراهنة على آخرين من بنية السلطة ذاتها. فهذه المجموعة سلّمت لإيران نتيجة وصولها إلى لحظة الانهيار نهاية سنة 2012، وليس نتيجة قناعة أو مصلحة.
ما يحلّ هذه العقدة ربما، هو تحقُّق التفاهم الأميركي الإيراني، وبالتالي شعور إيران أن وضع النظام السوري لم يعد مهماً لها. وهذا ما سوف يظهر خلال المفاوضات الجارية، رغم أن أميركا معنية بالتفاهم، وبـ “عدم استفزاز إيران”.
مع روسيا ربما يكون الأمر مشابهاً، فأميركا “باعت” سورية لروسيا منذ بداية سنة 2012، حينما طلب باراك أوباما من روسيا أن ترعى مرحلة انتقالية “كما حدث في اليمن”، وهي الخطوة التي مهّدت للوصول إلى جنيف1، وفتحت أفق الوصول إلى جنيف2 و3. لكن روسيا لم تستفد من اللحظة تلك، بالضبط لأنها أتت بوفد السلطة ذاتها، السلطة التي لا تريد الحل أصلاً، وأتت وهي ترفض مبادئ جنيف1. ولا زال واضحاً أنها تتمسك بالمجموعة المسيطرة على السلطة، وعلى استمرار بشار الأسد. يظهر الأمر هنا مشابهاً بشكل ما لوضع إيران، حيث أن النفوذ الروسي، والوجود الروسي، في السلطة السورية انتهى مع تسلّم بشار الأسد السلطة، حتى قبل وصوله إلى الرئاسة، حيث قام بإبعاد كل الضباط الذين تدربوا في الاتحاد السوفيتي، واعتمد سياسة جديدة، ارتبطت بالمسار الاقتصادي الذي سار به، والقائم على اللبرلة والانفتاح على السوق الرأسمالي، وبالتالي التفاهم مع “زعيمة الرأسمالية” (أي أميركا). فهذا هو المسار الذي ارتبط أصلاً بصعود آل مخلوف، وتحوّلهم إلى مركز مالي مهيمن. بالتالي كان يجب إبعاد كل الضباط الذين يمكن أن يكونوا في علاقة مع روسيا، وأن يوضع مكانهم ضباط داعمون للمسار الجديد.
لهذا انهارت العلاقة مع روسيا، وتراجع التبادل التجاري، وشراء السلاح إلى ما دون المليار دولار، خصوصاً أن روسيا ما بعد الاشتراكية باتت تتعامل بمنظور رأسمالي لا يسمح بمراكمة ديون كما حدث قبلاً، بعد أن جرى حل المشكلة من خلال تنازل روسيا غورباتشوف عن معظم الديون وتسديد الباقي عيناً عبر إرسال سلع سورية.
جرت محاولة إعادة العلاقة بعد اغتيال الحريري والحصار الأميركي على سورية، واكتشاف السلطة بأن أميركا تريد تغيير النظام، لكن السلطة مالت إلى التفاهم مع قطر وتركيا، وظلت عينها على أميركا. الثورة هي التي فتحت باب العلاقة “المتينة”، حيث توهمت السلطة بأن أميركا سوف تستغل الظرف لكي تتدخل، خصوصاً بعد التدخل في ليبيا، فاندفعت لعقد صفقة مع روسيا لكي تحمي ذاتها من خلال منع مجلس الأمن من إعطاء الشرعية لأي تدخل عسكري. وكان المقابل هو الحصول على مصالح اقتصادية هائلة، منها النفط والغاز، ومشاريع اقتصادية (وهذا ما جرى توقيعه في آب/أغسطس سنة 2012)، وأيضاً توسيع قاعدة طرطوس البحرية. بهذا باتت روسيا تعتقد بأن الالتزام بهذه الاتفاقات مرهون ببقاء بشار الأسد ومجموعته، وأن أي تغيّر في بنية السلطة قد يقود إلى إلغائها، خصوصاً وأن السلطة سوف تتوسع لتشمل مصالح دول أخرى، منها إيران، ومنها أميركا. وأن انفتاح العلاقة مع أميركا على ضوء ذلك يمكن أن يغيّر حتى في توجهات بشار الأسد ومجموعته. حتى بعد أن تدخلت عسكرياً وبات لها قواعد جوية عديدة وقوات برية على الأرض لا زالت تتمسك ببقاء بشار الأسد. هذا الأمر يبقي التشدد الروسي حيال إزاحة الأسد، مع ملاحظة أن بقاءه لا يفتح على أي أفق للحل، رغم ذلك تناور على أمل أن يتحقق لها الحل الذي يضمن استمرار مصالحها.
إن ضعف السلطة إزاء الثورة، وانهيار قوتها الصلبة (الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة) قد جعلها ممسوكة من كل من إيران وروسيا. لكن هاتين الدولتين لا تلمسان إلى الآن أن هناك بديل يمكن أن يحقق المصالح ذاتها التي حصلت عليها من بشار الأسد.
نلمس إذن، كيف أن ضعف السلطة إزاء الثورة، وانهيار قوتها الصلبة (الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة) قد جعلها ممسوكة من كل من إيران وروسيا. لكن هاتين الدولتين لا تلمسان إلى الآن أن هناك بديل يمكن أن يحقق المصالح ذاتها التي حصلت عليها من بشار الأسد، وأن أي تغير سوف يفقدها إياها.
في المقابل، نجد أن معارضة الداخل (هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطية خصوصاً) تراهن على “حل خارجي”، يتحقق عبر ضغط “القوى الدولية”، وأن معارضة الخارج (الائتلاف الوطني السوري) يخضع لموقف بعض أطرافه، وخصوصاً هنا جماعة الإخوان المسلمين، الذين يرون أنهم مستبعدون من الحل السياسي، ويخضع البعض الآخر للدول التي يتبعها (السعودية، قطر وتركيا)، وآخرون يمكن أن يقفزوا لأي حل يضمن لهم دوراً ما. لهذا نجد بأن هناك من يريد الحسم و”إسقاط النظام”، مراهناً على تدخل عسكري دولي، أو إقليمي (تركي بالخصوص بعد أن ملّ انتظار التدخل الأميركي)، أو بدعم عسكري يغيّر موازين القوى على الأرض. وهناك من يتلمس المأزق ويمكن أن يندفع إلى حل سياسي. لكن في كل الأحوال الائتلاف ككل سيخضع، أو هو خاضع، للقوى الدولية، ولقد ظهر ذلك واضحاً في مؤتمر جنيف2، حيث فرضت أميركا أجندته. أما تركيا فقد كانت تريد التدخل العسكري من أجل إسقاط النظام وفرض “سلطتها”، التي هي بالضبط القوى المستبعدة من أي حل سياسي (أي جماعة الإخوان المسلمين وإعلان دمشق)، لكنها لم تكن تستطيع التدخل دون الموافقة الأميركية، لهذا يبقى الأمر بيد أميركا. وحين تدخلت روسيا توترت الى حد الوقوف على حافة الصدام، لكنها بدت معزولة دون حلفاء، حتى من حلف الناتو، الأمر الذي جعلها تقفز للتفاهم مع روسيا، خصوصاً وأن بينهما مصالح اقتصادية كبيرة. وبالتالي فقد أدرجت دورها في سورية ضمن حدود الدور الروسي.
على الأرض نجد أن هناك كتائب مسلحة باتت تخضع لدول إقليمية، خصوصاً هنا السعودية وتركيا وقطر، وبالأخص السعودية، مثل جيش الإسلام، وكتائب إسلامية أخرى. ولقد ظهر في الفترة الماضية كيف أن هذه الكتائب خضعت للتكتيك السعودي، فانسحبت حينما أرادت، ولم تتقدم لكي لا تضعف السلطة، واهتمت بتصفية الكتائب الأخرى. ولهذا سوف تخضع لكل حل تقبل به تلك الدول. وحتى الكتائب الأخرى التي تتلقى بعض الدعم سوف تتراجع أمام توقف الدعم. بالتالي سوف نجد أن كل هذه القوى سوف تقبل الحل حال وافقت الدول الداعمة. الأمر الذي يجعل المسألة تتعلق بمفاوضات السعودية وقطر وأميركا، التي ستفرض هي على الآخرين الحل حين يتم التوصّل إليه.
الحل مرتبط بتوافق خماسي بين أميركا وروسيا وإيران وتركيا والسعودية. لقد كان مرتبطاً أولاً بكل من أميركا وروسيا، لكنه اليوم مرتبط بتفاهم أميركي إيراني أعم، وتفاهم أميركي روسي أوثق، لكن مع “رضى” الدول الأخرى.
إذن، الحل مرتبط بتوافق خماسي كما يمكن أن نلمس، بين أميركا وروسيا وإيران وتركيا والسعودية. لقد كان مرتبطاً أولاً بكل من أميركا وروسيا، وهو ما أنتج مبادئ جنيف1 ومؤتمر جنيف2 و3، لكن الموقف الروسي الذي يريد مشاركة الأسد أفشل الحل في جولة المفاوضات الأولى ويفشلها في الثانية. ولقد ارتبكت روسيا بعدها بأزمة أوكرانيا، ومن ثم تصاعد الضغط الأميركي عليها، وبالتالي التدخل الأميركي في العراق والتمدد إلى سورية بحجة الحرب ضد داعش. لنصل إلى وضعية جديدة في التفاوض جعلت الحل في سورية مرتبط بتفاهم أميركي إيراني أعم، وتفاهم أميركي روسي أوثق. لكن مع “رضى” الدول الأخرى.
عن طبيعة الحل
ما هو مطروح كحل يجري التداول به بين هذه الدول يتراوح بين بقاء نظام الأسد مع إشراك أطراف معارضة في السلطة، و”توسيع” هامش المشاركة السياسية، وهو ما لا زالت كل من روسيا وإيران تصرّان عليه، وبين تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية من طرف من السلطة وأطراف المعارضة و”تكنوقراط” كما تنص مبادئ جنيف1، وكما تصرّ كافة أطراف المعارضة إلى الآن.
كما أشرت فقد نص التوافق الأميركي الروسي منذ نهاية حزيران/يونيو سنة 2012 على مبادئ جنيف تلك، على أن ترعى روسيا الحل، أي أن تكون لها الكفة الراجحة. لكن روسيا لم تفعل ذلك، وبالتالي ظل الحل يتراوح بين الصيغتين. من سيتنازل من الطرفين، الروسي الإيراني والأميركي السعودي؟
لكن أي حل يمكن أن ينجح؟
ربما كانت القوى الكبرى تعتقد بأن توافقها كافٍ لإنجاح الحل، لكن أظن بأن في ذلك خطأ كبيرا، بالضبط لأن هناك طرف ثالث هو الذي يُنجح أو يُفشل الحل، هو الثورة، أي الشعب السوري، وكثير من الثائرين الذين يحملون السلاح أو ينشطون سياسياً أو في الإعلام أو في الإغاثة، أو حتى في التحريض والتظاهر المحدود.
إن أي حل لا يوافق عليه الشعب لن يكون مصيره سوى الفشل. حيث أن رفضه لأي حل سوف يعني استمرار الصراع المسلح، واستمرار تفكك بنى الدولة، التي لن تستطيع مواجهة الوضع لفرض الحل، حتى مع بقاء قوى إيران وروسيا
ولا شك في أن الوضع بات صعباً للغاية نتيجة الوحشية التي تمارسها السلطة، والتهجير الكبير الذي حدث، وانهيار الاقتصاد، والوضع الأمني الرديء للغاية. وأيضا دور القوى المتطرفة ضد الشعب، من داعش إلى النصرة إلى جيش الإسلام، وعديد من الكتائب الأخرى، التي باتت تمارس سلطة قروسطية وحشية كذلك على الشعب في مناطق سيطرتها. إضافة إلى انسداد الأفق أمام تحقيق الانتصار على السلطة، وغياب الهدف من الثورة بعد تصاعد دور القوى الأصولية. ووضوح وقوف كل الوضع الدولي إلى جانب السلطة، وتآمرها على الثورة. وبالتالي تحوّل الصراع ضد السلطة إلى صراع مع إيران وأدواتها (حزب الله والميليشيا الطائفية العراقية)، ومع روسيا أيضاً، أي صراع هو أكبر من قدرة الشعب السوري كما يبدو، دون أن يعني ذلك أنه قادر على حسم الصراع. رغم كل ذلك، لا بد من أن يكون واضحاً أن أي حل لا يوافق عليه الشعب لن يكون مصيره سوى الفشل. حيث أن رفضه لأي حل سوف يعني استمرار الصراع المسلح، واستمرار تفكك بنى الدولة، التي لن تستطيع مواجهة الوضع لفرض الحل، حتى مع بقاء قوى إيران وروسيا. فالحل يقتضي أن يقبل الشعب النتيجة على ضوء موازين القوى، وكذلك على ضوء مطمحه الذي فرض تفجير الثورة. على الأقل كما حصل في البلدان الأخرى التي واجهت ثورات. خصوصاً هنا، نتيجة أن السلطة مارست كل الوحشية التي طالت وأخافت حتى مناصريها، أو المحسوبين عليها، كما طالت كل الشعب. لقد دمّرت السلطة وحرقت لكي تبقى، وقتلت مئات آلاف الشباب، من الثورة ومن القوات التي زجتها ضد الثورة، وأظهرت وحشيتها كاملة. كيف بالتالي يمكن أن يتحقق حل في ظلها؟
بالتالي حتى وإنْ جرت الموافقة من المعارضة كلها على حل يبقي بشار الأسد فإن هذا الحل سيفشل. خصوصاً أن المعارضة ليست هي المتحكم بمسار الثورة، ولا بالكتائب المسلحة، بل أن إشراكها كطرف في الحل هو نتاج الحاجة إلى تمثيل “الثورة” في الحل، ولهذا فإن مقياس قبولها هو تمسكها بالحل الذي يبعد بشار الأسد ومجموعته، وإلا ستسقط.
هنا نلمس بأن الذي يحدد الحل في الأخير هو الشعب. طبعاً ليس كما طالب منذ البدء (رغم أن مطالبته كانت غائمة) بل بما هو “حدٌّ أدنى” يتمثّل في ترحيل الرئيس ومجموعته. بالتالي فإن كل حل دولي سيكون محكوماً بسقف الحد الأدنى هذا. وإلا فالصراع مستمر إلى أن تتغير موازين القوى أو تقتنع كل من روسيا وإيران أن عليهما ترحيل الرئيس ومجموعته وفتح الأفق لمرحلة انتقالية تحت سلطة هيئة حكم انتقالية.
في ظل الاستعصاء القائم نتيجة فوضى الثورة والتدخلات الإقليمية والدولية، وفي ظل ارتباط الحل بقوى خارجية، فإن الحل الوسط الوحيد الذي يوصل إلى “استقرار” هو رحيل الرئيس وحاشيته وتشكيل هيئة حكم انتقالية.
السلطة، إذن، تريد أن تنتصر، والشعب أيضاً يريد أن يغيّر. وفي ظل الاستعصاء القائم نتيجة فوضى الثورة والتدخلات الإقليمية والدولية، وفي ظل ارتباط الحل بقوى خارجية، لا بد من حل يوصل إلى “استقرار”. والحل الوسط الوحيد لتحقيق ذلك هو رحيل الرئيس وحاشيته وتشكيل هيئة حكم انتقالي. هذا ما لا بد من أن يجري التوافق عليه دولياً لكي ينجح، لكن نجاحه مرتبط بتحقق هذه الصيغة بالذات، وليس بما يطرح الروس والإيرانيون. وبالتالي فإن استمرار الصراع والأخطار الإضافية التي يمكن أن تنتج عن ذلك هي من فعل هؤلاء الآن. لقد ساهما في المجزرة التي قامت بها السلطة، وهما مسؤولان عن الاستمرار بها. فالشعب السوري يسحق خدمة لمصالح كل من إيران وروسيا.
بالتالي من يريد وقف الدم وإنهاء المجزرة يجب أن يحمّل المسؤولية لكل من إيران وروسيا، وأن يعرف أن وقف الدم يستلزم فقط ترحيل الرئيس وحاشيته. وليس من وقف للصراع دون ذلك، ليس لأننا نريد، فنحن خارج القرار، بل لأن الشعب الذي يقاتل لن يقبل حلاً لا يفضي إلى رحيل “النظام” هذا.