قصف دير الزور والشعرة التي قصمت ظهر البعير

20 أيلول (سبتمبر - شتنبر)، 2016
11 minutes

يقول ليونيد بريجنيف الزعيم الشيوعي المعروف: إذا قال لك أحدهم أنه يرى نهراً حيث لا يوجد نهر، فلا تقل له أنه يتخيل أو يحلم، بل قل له أنك ستبني له جسراً فوق ذاك النهر.

يبدو أن القيادة الروسية الحالية ممثلة بالقيصر “بوتين” ووزير خارجيته “لافروف” تطبق ما قاله زعيمهم الشيوعي منذ عشرات السنين، فبشار الأسد الحالم بعودة سورية لمقتنياته وممتلكات آل الأسد يتخيل أنه قادر على ذلك، ويبدو أنه شرح للروس خططه مع قرينه بالأحلام “قاسم سليماني” حول استعادة سورية، وكان آخر مرة تحدث بها عن هذا الموضوع بعد الصلاة الجنائزية التي صلاها في مدينة “داريا” تحت مسمى “صلاة عيد الأضحى المبارك”، لكنه كان يصلي على رفات مدينة خاوية إلا من أرواح عشرات الآلاف من سكانها الذين قتلتهم آلة حرب هذا الطاغية وعصابته وحلفائه من الميليشيات الطائفية التي تسانده. بشار الأسد الذي يحلم بعودة سورية لسيطرته ينطبق عليه كلام بريجنيف، والروس لم يتغيروا ولم يقولوا لبشار الأسد أنك حالم بل قالوا: سنبني لك جسراً على نهرك.

روسيا تدرك أنها دخلت إلى سورية ببطاقتين خضراوتين واحدة من “إسرائيل” والثانية من “الولايات المتحدة الأمريكية”، وتعلم روسيا أيضاً أنها لا تملك رصيداً زمنياً مفتوحاً، وأن الجرائم التي ارتكبتها في المدن والبلدات السورية هناك مظلة واحدة تقيها منها ومن جرها لمحكمة الجنايات الدولية في “لاهاي” وهي المظلة الأمريكية، لذلك نجدها تسعى جاهدة لعقد اتفاق عسكري_سياسي مع أمريكا حول سورية يعطيها الأمان والضمان. وبنفس الوقت، الإدارة الأمريكية المترددة والمنسحبة من حلفائها بالشرق الأوسط تدرك أنها غير قادرة الآن على عقد هذا الاتفاق وهي تجمع حقائبها لتغادر البيت الأبيض، لكنها أيضاً لا تريد مضاعفات قد تغير من مجرى الانتخابات الأمريكية التي تسير رحاها حتى الآن لصالح مرشحتهم هيلاري كلينتون.

في ظل تلك الأجواء عقد كيري_لافروف اتفاقاً من الواضح أنه أعطى لروسيا أكثر مما تتوقع وتعهدت فيه أمريكا بأكثر مما تستطيع، فوقعت الإدارة الأمريكية بشر أعمالها إن كان عبر صراع داخلي مع وزارة الدفاع “البنتاغون” الذي يرفض مشاركة الروس بضربات جوية تٌكشف فيها خطط ووسائط وبرامج الاستطلاع وأساليب اتخاذ القرار الأمريكية، ضربات تجمع الجيش الأمريكي والروسي بعد قطيعة امتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعبر رفض استخباراتي من الـ”سي آي إيه” التي ترفض منح الضوء الأخضر للاستخبارات الروسية للدخول على ملفات جمع المعلومات و”داتا” المحفوظات التي تختزنها. ودخل على الخط قائد سلاح الجو الأمريكي الذي رفض أن يشارك مع الطيران الروسي بهجمات مشتركة وبأسلحة روسية تمتاز بعدم الدقة وقد تتسبب بمجازر بشرية ستضطر واشنطن للسكوت عنها. ويشترك أيضاً جميع المعترضين على سياسة وزارة الخارجية الأمريكية بفكرة أخرى أنهم يمتلكون قناعة كاملة بأن كل الجهود والمعلومات التي ستقدمها أمريكا سيستثمرها الجانب الروسي بتعويم وتقوية مكانة الطاغية “بشار الأسد” لإبقائه في كرسي السلطة على حساب الشعب السوري الحر وفصائله المعتدلة.

كل الجهود والمعلومات التي ستقدمها أمريكا سيستثمرها الجانب الروسي بتعويم وتقوية مكانة الطاغية “بشار الأسد” لإبقائه في كرسي السلطة على حساب الشعب السوري الحر وفصائله المعتدلة.

أمام هذا الواقع وجد الروس والأمريكان أنفسهم حيال تصادم وتشابك وتراشق إعلامي بدأ قبل أن يجف حبر الاتفاق الذي كٌتب وقبل أن يحين موعد التطبيق، وزاد من الخلاف رفض نظام الأسد الانسحاب من طريق الكاستيللو وفق آليات الاتفاق المحددة ومن ثم الالتفاف على الاتفاق بإحلال وحدات خاصة روسية بدلاً من ميليشيات الأسد والميليشيات الإيرانية، ومع رفض الجيش الحر الانسحاب تعقدت المشكلة خصوصاً مع منع النظام فريق الأمم المتحدة من إدخال قوافل الإغاثة، والتي تنتظر الإذن للدخول إلى أحياء حلب الشرقية والمعضمية. وفي ظل هذا الموقف المتشنج حدث ما لم يكن بالحسبان عندما قصفت طائرات التحالف الغربي موقعاً في دير الزور أدى لمقتل حوالي (80) عنصراً من عصابات الأسد هناك.

بالعودة للميدان ومع صبيحة يوم السبت، انطلق تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بمعركة أو “غزوة” كما يسمونها على أطراف جبل “ثردة” بدير الزور، والذي يطل ويشرف على مطارها المدني والعسكري، وتقدم ليسيطر عليه، وهذا التقدم جرى تحت مراقبة وسائط استطلاع التحالف، وهناك معلومة نقلها “ناشط” من أبناء المنطقة وممن خدم جنديته في هذا الموقع العسكري، حيث أكد أن هناك إضافة إلى مستودعات الأسلحة الثقيلة التي يخزنها نظام “الأسد” في هذا الجبل الذي يٌعتبر الخط الدفاعي الرئيسي عن المطار فإنه يوجد مستودع أكثر خطورة وهو يحوي مادة “غاز الخردل”، ويبدو أن تلك المعلومة موجودة عند الاستخبارات والاستطلاع الأمريكي، وخشية وقوعه بيد تنظيم “داعش” استٌدعيت المقاتلات الغربية العاملة في إطار التحالف الغربي لقصف التنظيم الذي سيطر على جبل “ثردة” ومنعه من الوصول إلى المستودع. الوقت الضائع ما بين رصد وسائط الاستطلاع وما بين تحليل المعلومات وما بين استدعاء وسائط التنفيذ يستغرق زمناً وخلال هذا الزمن استطاعت ميليشيات “الأسد” من استعادة السيطرة على الجبل لكن مع وصولها للمواقع الجديدة تلقت الضربة الأمريكية عوضاً عن “داعش”.

بالتأكيد يبقى هذا احتمالاً وإن كانت المعلومات مستقاة من مراقبين وناشطين على مقربة من ساحة المعركة، والتحليل العسكري يؤيد تلك الفكرة، حيث أن وصول “داعش” إلى جبل “ثردة” والسيطرة عليه سيعطيه ميزات كثيرة أولها حصوله على مستودعات ضخمة من السلاح الثقيل إضافة للسلاح الكيميائي، مع نقطة غاية بالأهمية وهي أن من يسيطر على جبل”ثردة” تصبح حظوظه أكبر بالسيطرة على حي “هرابش” وحي “الجورة” وحي “القصور” الواقعة حالياً تحت سيطرة عصابات “الأسد” و”إيران” و”حزب الله” والميليشيات “الفلسطينية”، وإذا ما أٌضيفت تلك المواقع لسيطرة “داعش” والذي يسيطر بالأحوال الطبيعية على حي “الطحطوح” وأطراف حي “الصناعة”، يصبح معها أن مطار “دير الزور” قد أصبح تحت شبه حصار دائري، ومعه يصبح فريسة سهلة للتنظيم للانقضاض عليه وإعادة سيناريو ما حصل في مطار “الطبقة”.

كانت ضربة قوات التحالف في دير الزور مؤلمة وطالت “الأسد” وكل حلفائه. وبالتالي فقد تكون رسالة أمريكية مشفرة غايتها “روسيا” وأٌرسلت عبر قصف مواقع النظام

روسيا اعتبرت هذا الخطأ الأمريكي بالقصف هو هدية سماوية أتت على طبق من ذهب وعليها استغلالها بأقصى الطاقات، فسارعت لطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لمناقشة هذا الأمر وتسجيل نقطة على الأقل ضد إدارة “الرئيس أوباما”، كما قالت المندوبة الأمريكية “سامانتا باور”، لكن حقيقة الأمر أن هذا التصرف يكشف أمرين اثنين:
الأول: أن الغضب الروسي لم يكن ناجماً عن قتل الأمريكان لجنود للأسد فقط بل الأمر تعدى ذلك مع نشر صحيفة “يني شفق” التركية لمعلومات استقتها من مصادرها الخاصة وتقول: أن من بين القتلى أيضاً (7) جنود روس من القوات الخاصة على الأقل، إضافة إلى (11) عنصر من قوات الهندسة التابعة لميليشيا “الرضوان” في حزب الله، بالإضافة لأكثر من (20) عنصرا “إيرانيا” و(7) عناصر من ميليشيات “شباب العودة” و”قوات الجليل” الفلسطينية. وبالتالي الضربة كانت مؤلمة وطالت “الأسد” وكل حلفائه، وبالتالي قد تكون رسالة أمريكية مشفرة غايتها “روسيا” وأٌرسلت عبر قصف مواقع النظام.
الثاني: أن الاستغلال الروسي للحادثة والتمسك بها والمسارعة نحو مجلس الأمن كشف حقيقة التنسيق الروسي_الإسرائيلي، فالضربات والقصف الجوي الإسرائيلي الذي لم يغب عن مواقع النظام في الجنوب السوري وأطراف دمشق العاصمة وخصوصاً خلال الأيام القليلة الماضية، وسكوت الروس عن تلك الضربات له أحد تفسيرين: إما اعتراف روسي بأن نظام “الأسد” هو من يقوم بالتعدي على أمن إسرائيل وبالتالي يصنف القصف الإسرائيلي تحت مبدأ الدفاع عن النفس، أو أن هناك تواطؤاً روسياً و(عجزاً) عن معاملة إسرائيل بمثل ما تعاملت به روسيا مع الولايات المتحدة الأمريكية.

نحن أمام “هدنة” إعلامية يتبجح بها ناطقو خارجيات روسيا وأمريكا وأبواقهم على منابر الإعلام، بينما في حقائق الأمور وعلى الأرض فقد تم تسجيل أكثر من (220) خرقاً ارتكبها نظام “الأسد”

بالميدانيات، نحن أمام “هدنة” إعلامية يتبجح بها ناطقو خارجيات روسيا وأمريكا وأبواقهم على منابر الإعلام، بينما في حقائق الأمور وعلى الأرض فقد تم تسجيل أكثر من (220) خرقاً ارتكبها نظام “الأسد” (حتى مساء الأحد)، كان أهمها قصف الطائرات وحوامات براميل الموت التي طالت جبهة الساحل وبلدات إدلب وريف حماة وريف حلب وأحيائها وريف حمص والغوطة الشرقية وحي جوبر ومدينة درعا وريفها. وأهالي قرى طرنجة وجباتا الخشب وأوفانيا الذين لجؤوا إلى السياج الحدودي مع الجولان المحتل لم يسلموا أيضاً من قصف ميليشيات حزب الله وإيران والأسد، وحتى الطيران الروسي شارك بالخرق عبر قصف مدينة الرستن بالقنابل العنقودية. وزادت عصابات الأسد على تلك الخروقات بمنع إدخال أي شاحنة من قوافل الإغاثة إلى “حلب” و”المعضمية” بعد مضي أسبوع كامل على بدء تنفيذ الاتفاق، ورغم ذلك مازال الروس والأمريكان يظنون أنهم يحافظون على اتفاق أقل ما يٌقال عنه أنه وٌلد ميتاً، وأن كل بند من بنوده يحتاج لاتفاق، فهو اتفاق هش برعاته، وهش ببنوده، وهش بتطبيقه.

انهيار الاتفاق أصبح بحكم الواقع الذي ينتظر جرأة الإعلان.
وما يرشح عن الغرف السوداء يقول: أن كل الغيوم القادمة لا تحمل مطراً.
وأن كل ما توافقوا عليه لا يٌبشر بالخير …
لكن يبقى أمل الثورة بحاضنتها التي لا تغيب … وبثوارها الذين يُعقد عليهم الأمل
وبخياراتها التي ما تزال مفتوحة.