أنت من داريا؟ أريد أن أشتمّ رائحة الثورة والنقاء


darayya-fighters-in-idleb-syria-enabbaladi

محمد ديرانية

لم يتركُ أسعد طه، في مقالته المشهورة “أنت عربي؟ أريد أن أشمّ رائحة النبي”، فسحة للنفس لئلا تعقم لغتها عن البوح، وتشعر بالتضاؤل وتعبر عن تقصيرها بكل ما في العربية من مفردات، وتشكر الله على ستره.

الطيبون في آسيا، و بأقصى جنوب الفلبين، كما يقول أسعد، هناك حيث يناضلُ المسلمون ليحصلوا على حقهم بحكم أنفسهم بأنفُسهم، و تقرير مصيرهم، بعيدًا عن الصورة السائدة لنزاع الجماعات.

هناك.. بعيدًا، وببقعة منعزلةٍ عن العالم، عندما يزورهم أيّ عربي في أرضهم، يستقبلونه استقبال الأبطال، يلتفّون حوله، يحفّونه، يبجّلونه، يمجّدونه، كأنّه قائدهم، لا زائرًا لأرضهم، يقتربون منه، يشتمّونه، يتلمّسونه، يقبّلون كتفيه ويديه، يسحب يديه فزعًا، وعندما يسألهم باستغراب، يجيبون:
“أنت عربي؟! أتيت من بلاد النبي.. ونريدُ أن نشمّ رائحة النبي”.

كما كان يفعلُ أولئك الطيبون في جنوب الفلبين، يعيدها ثوار الشمال اليوم في سوريا، بعزم الثائر، وطيبة المكافح، وبالصبغة الثورية السورية.

بتاريخ 26 آب 2016 أُفرغَت مدينة داريا من أهلها، بعد تسعة آلاف برميل، ومئات الأطنان من الصواريخ والمتفجرات، لم تزل تهبطُ طوال أربع سنوات و نصف على أطلال مدينة، تبقّى منها أقلّ من العُشرِ بيد الثوار خلال السنة الأخيرة.

في التاريخ السابق، ختمت المدينة حربها، ومسيرة طويلة من التضحية قدمت فيه آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين، وغربت الشمسُ على خسائر هائلة للنظام، بلغت من الجنود ما يساوي لواءً من الدرجة الثانية، ومئات الدبابات والعربات، بالإضافة إلى كاسحات استقدمها إلى جوار ميليشيات من كل أنحاء العالم لمساعدته في إرضاخ الثوار، وكسر عزيمتهم، وهزيمتهم، التي لم يبلغها.

عندما تسامعَ أهالي إدلب بقدوم أبناء داريا إليهم، لم تسعهم الفرحة، وخذلتهم اللغة، وكتبوا على صفحاتهم في مواقع التواصل من الشعر والدعوات والترحيبات بعبارات عفوية محلّية بسيطة، تحملُ من الذوق والأدب الصادق ما يستعصي على الناقدِ الأديب جرحُه.

يسمعون عن تلك المدينة، وغالبهم لم يقابل أحدًا من أبنائها من قبل، و خلال الثورة لم يميزوا لأحدهم اسمًا أو صورة، و لا يتعرفون على أحد ثوارها إلا بعد أن يقضي شهيدًا في المعركة و تنتشرَ صُوره.

يتصوّرون أنّ ثوارها بشرٌ غير عاديّين، لا ينتمون لهذا العَصر، صمودُهم لأربع سنوات ونصف دون تشكٍّ، شجّعَهم على تعزيز تخمينهم.

إذ تحت وطأة الحصار والقصف اليومي بالأسلحة المحرمة، تخرّجت دفعات من حفظة القرآن، والتعليم الابتدائي، بالإضافة إلى ندوات حوارية وثقافية داخلية دوريّة كانت تُعقد، في الأقبية وبعيدًا عن مخاطر القصف، وأخرى مع مفكرين كبار، وشخصيات سياسية عبر الإنترنت، كان يتناهى إلى مسامع ثوار سوريا بعض أخبارها وصورها من داخل المدينة مكتومة الأنفاس.

هناك في الشمال..
في موسم الحجّ إلى مكّة، آخرون وقفوا كالحجيج في قلعة المضيق في حماة، وآخرون نحروا الهدي وهيؤوا الولائم في البيوت، طافوا أكثر من سبعٍ وهم ينتظرون وصول الحافلات. بلهفة عجوز عاش في القرن الصارم، يتطاولُ على أصابع قدميه لييبصر الكعبة أول مرّة في عمره، فيأسِره المشهد، ويختنقُ بدمعه، وتخذله اللغة، استحالت جموع المنتظرين في القلعة مع وصول أول حافلة.

هناك في الشمال.. كان الحجُّ والطواف والنحرُ محلّيًا.

بعد أن آووهم في القلوب، وشاركوهم في الحياة، ومنحوهم الحبّ والديار، إذا تجولتَ في البلدات والأحياء، وابتعدتَ عن مكان سكنك قليلًا، من مشيتكَ الحائرة يميّزونك، تتضحُ غُربتك عن المكان من حيرة خطواتك، يتفرّسونها فيك، وينقّلون أبصارهم معك.

يمعنون في التحديق، وحدسُهم يحكي شيئًا ما ويتمناه، حتى إذا ما سلّمتَ وتكلمت بضعة كلمات، اعتقدوا أنّك من “حمص” لتشابه لهجة أبنائها مع لهجة أبناء داريا.

فإذا ما عرّفتَ عن نفسك مجيبًا عن سؤالهم، بأنّك من داريا. استعدتَ مشهد أسعد طه بأقصى الفلبين، و أنت تراقب استهلالَ أسارير وجههم، و ذهولهم، وكيف يتحولون إلى أم رحيمةٍ شفوقة عذبة تتلمّسُك، وتمسحُ على رأسك، وتأبى إلا أن تنزلَ عندها أسبوعًا في بيتها، فإذا أبيتَ انخفضُوا إلى النصف، فإذا تعذّرتَ لا تخرجُ إلا مع قُبلة للرأس، وساعة تقضيها في بيتهم، يطلبون منك أن تزيدها دقائق أخرى ليطيلوا النظر فيك، ولو علموا شرّ فعالنا، وسيء خلواتنا، لرمونا بحذائهم، ولطردونا من الباب، لكنه العزيز يسترُ برحمته، له المنة والثناء.

كم كنتُ أتمنّى ألا أكونَ أنا صاحب هذا المقال، لمعرفتي بجميلِ ستر الله علينا، وهفواتنا وتقصيرنا وذنوبنا، والتي لولا سترُه عليها سبحانه لما نالت تجربة داريا من التشجيع والثناء والتمجيد ما نالته.

في الشمال..
في كثير من البلدات، يعيشُ الأهالي على فطرتهم الثورية البسيطة، يدخلونك بيوتهم ويعطوك مفاتيحها، فأنت ثائر من داريا، يقبّلك يمسح على رأسك وكتفيك، و يشتمّ رائحتك، فإذا ما سألته أجاب: “أنت من داريا، وأنا أحبّ أن أشتمّ راحة الطهر والنقاء”.



المصدر