«ناشونال إنترست»: لماذا فشلت الدول العربية؟


تساءل «محمد أيوب»، وهو زميل في مركز السياسة العالمية، وأستاذ فخري في العلاقات الدولية في جامعة ولاية ميشيغان الأمريكية، تسائل عن الأسباب التي أدت إلى فشل الدول العربية، وخاصة سوريا والعراق وليبيا.

ورأى الأستاذ الجامعي في مقال نشرته مجلة «ذا ناشونال إنترست» الأمريكية أن التدخلات الغربية في الدول العربية، ومن بينها الغزو الأمريكي للعراق كان لها بالغ الأثر في فشل هذه الدول، خاصة وأن هذه التدخلات خلقت مساحات من الفراغ تم شغلها من قبل التنظيمات الجهادية.

وقال الكاتب في بداية المقال: «تم الترويج لمقتل (أبو محمد العدناني)، مسئول الدعاية لدى تنظيم (الدولة الإسلامية) (داعش) مؤخرًا، تم الترويج له على أنه نجاح كبير من قبل الدول التي تحاول القضاء على قدرات التنظيم».

وأضاف أن مقتل العدناني كان ينظر إليه على أنه إنجاز كبير ادعت كل من الولايات المتحدة وروسيا أن هجماتها الجوية هي التي حققته. القوات التي احتشدت ضد تنظيم داعش، الولايات المتحدة وتركيا والحكومة العراقية والميليشيات الشيعية، والأكراد السوريين، وإيران، وروسيا، تفرقت أيضًا في الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم على الرغم من الخلافات فيما بينها. ووفقًا لأحد التقديرات، فقد التنظيم 25% من الأراضي التي سيطر عليها في قمة نجاحه.

ومع ذلك، فإن تشويه قدرات التنظيم وإعادة السيطرة على الأراضي التي فقدها في سوريا والعراق لن يحل مشكلة الفوضى والعنف في هذه البلدان. فالمشكلة الكامنة وراء ظهور القوى الجهادية العنيفة هي غياب قدرة الدولة في هذه البلدان، بحسب ما ذكره الكاتب.

عدم توفير الأمن

الكاتب أشار إلى أن تقاعس الدول عن توفير الأمن الكافي لسكانها وتنظيم التفاعلات داخل المجتمع بطريقة يمكن التنبؤ بها، وفر المساحة لجماعات مثل تنظيم القاعدة وداعش أن تزدهر في العراق وليبيا وسوريا.

تشتري هذه الجماعات ولاء السكان الذين يطمحون إلى السيطرة، ومن بين أمور أخرى، استدعاء التشدد الديني. وعلاوة على ذلك، كما يوضح مثال داعش، أقامت هذه الجماعات هياكل الدولة البديلة لتوفير درجة من الأمن إلى الناس الذين هم على استعداد لتزويدهم بالرجال والمال، في مقابل الحماية.

وذكر الكاتب أن انتشار الخصومات والصراعات في هذه الدول الطائفية والعرقية يمكن أن يعزى إلى نفس السبب. عندما تفشل الدول في أداء مهمتها الأولية وهي توفير الأمن للسكان، فإن الأفراد والجماعات يبحثون عن بدائل تمنحهم الأمن. يتولى أصحاب المشاريع الطائفية والعرقية وظائف أجهزة الدولة، وتنتقل بعض من ولاءات المواطنين ومواردهم لهؤلاء الأشخاص في مقابل الحماية والأمن. يطلق هذا أيضًا المنافسة بين الجماعات الطائفية والعرقية لمحدودية الموارد المتاحة، وفي النهاية يؤدي إلى احتدام الصراعات بين الطوائف والأعراق، إذا لم تندلع حرب شاملة.

وقال الكاتب إن عملية فشل الدولة في العالم العربي، في معظم مرحلتها الأخيرة، ليس لها جذور لا في الآيات القرآنية التي يتفاخر بها الجهاديون لتبرير العنف ولا في التاريخ الذي يبلغ من العمر 1400 من الانقسام بين السنة والشيعة، والذي استخدمه أصحاب المشاريع الطائفية لتبرير العداء تجاه «الآخر».

التدخلات الغربية

بحسب الكاتب، يعود الفضل في أصول عملية الفشل هذه إلى الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، والذي كان مصحوبًا ببرنامج متعمد يهدف إلى تدمير أجهزة الدولة العسكرية والمدنية، وهو مشروع يسمى مجازًا «اجتثاث البعث».

الغزو الأمريكي ومن خلال تحطيم الدولة العراقية أيضًا سمح بتواجد القوى الراديكالية والمتطرفة والجهادية، والتي تتهم الآن بنشر الفوضى في الشرق الأوسط. خلق الغزو الأمريكي للعراق فراغًا سياسيًا هائلًا تحركت فيه القوى المتطرفة وهكذا تم إنشاء تنظيم القاعدة في العراق، بقيادة «أبي مصعب الزرقاوي»، الذي تحول التنظيم بعد وفاته إلى تنظيم داعش.

وقد شغل الفراغ الذي خلفه تدمير الدولة العراقية في وقت واحد من قبل جماعات طائفية متناحرة، مما أدى إلى اشتداد الصراع الشيعي السني، الذي امتد لعقود من الزمن، إن لم يكن قرون.

وفقًا للكاتب، تفاقمت المشكلة بسبب فشل الحكومات العراقية بعد الغزو في التصرف باعتبارهم حكامًا محايدين بين الجماعات الطائفية المتنافسة، لأن هذه الحكومات تمت قيادتها من قبل أصحاب المشاريع الطائفية الشيعية نفسها.

ونتيجة لذلك، فإن معظم السنة فقدوا تمامًا الثقة في قدرة الدولة على توفير الحماية لهم. لم يولد ذلك الميليشيات القبلية السنية فحسب، ولكنه أعطى أيضًا فرصة جديدة للحياة إلى بقايا حزب البعث. الأهم من ذلك أنه أدى إلى نقل الدعم السني للجماعات المتشددة مثل تنظيم القاعدة في العراق، وفي نهاية المطاف إلى خليفته داعش.

ليبيا وسوريا

وهنا قال الكاتب إنه يمكن رؤية أنماط مماثلة واضحة في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، وفي سوريا مع فقدان نظام الأسد السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد. في كلتا الحالتين، كما هو الحال في العراق، كان التدخل الأجنبي مسؤول إلى حد كبير عن انهيار الدولة.

في حالة ليبيا، تصرف حلف شمال الأطلسي (الناتو) باعتباره الذراع الجوي للقوات المناهضة للقذافي، ووفر الدعم الحاسم الأخير الذي مكنها من إسقاط النظام القديم، وبدأت ليبيا في حالة من الفوضى. كان من المستبعد جدًا أن يتم الاطاحة بالقذافي من دون دعم حلف الناتو المفتوح للقوات المناوئة له. وهذا ما أكدته وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك «هيلاري كلينتون»، التي قالت عندما علمت بموت القذافي: «لقد جئنا، لقد شاهدنا، لقد مات».

قصة سورية مشابهة، إلى حد كبير، كما وصفها الكاتب. كان الدعم الخارجي للقوات المناهضة للأسد حاسمًا في دفع النظام من أجزاء واسعة من البلاد. ولكن عدم قدرة جماعات المعارضة المدعومة من الخارج، على حد سواء لتوجيه ضربة الموت لنظام الأسد، وإيجاد هياكل دولة قابلة للحياة في أجزاء من البلاد التي تسيطر عليها، إضافة إلى فراغ السلطة الذي خلفه انسحاب القوات الموالية للأسد، مهد الطريق لظهور تنظيم داعش وإعلان  الخلافة في نهاية المطاف.

وذكر الكاتب أن الجمود العسكري في سوريا كذلك شجع على إشراك القوى الإقليمية- السعودية العربية وإيران وتركيا- في الصراع من أجل مصالحهم الخاصة. وباتت أيضًا روسيا والولايات المتحدة على طرفي نقيض من الحرب الأهلية، الأمر الذي يفاقم من الفوضى في البلاد. وهكذا أصبحت سوريا الساحة الرئيسية لمدة سنتين على الأقل لحربين باردتين في الشرق الأوسط، إحداهما بين إيران والمملكة العربية السعودية والآخرى بين الولايات المتحدة وروسيا.

الكاتب تابع بقوله:«صحيح أن سوريا والعراق وليبيا وعدة دول عربية أخرى عانت من هشاشة الدولة وانعدام شرعية النظام غير المشروطة قبل التدخل العسكري الأجنبي. ومع ذلك، كان المتغير الحاسم الذي دفعهم من خط هشاشة الدولة إلى انهيار الدولة هو التدخل العسكري الأجنبي. إذا كان قد خلى بين شعوب هذه الدول وأجهزتها الخاصة، لكانت قد نجحت هذه الدول على مر الزمن في تغيير الأنظمة من خلال عملية تمرد مستقلة، أو على الأرجح، لتصالحت مع الأنظمة شبه السلطوية، التي وكما يعلمنا تاريخ أوروبا الغربية، هي ضرورية في المراحل الأولى لتكوين الدولة».

تجارب غربية

إن فرنسا لم تكن لتكون فرنسا، كما هو الحال مع إنجلترا، إذا لم يكن الكابيتيون والبوربون والتيودورز قادرين على فرض النظام ودرجة كبيرة من التجانس من حيث القانون واللغة وحتى الدين على السكان الذين كانوا على الأقل متنوعين مثل، إن لم يكن أكثر من سكان سوريا والعراق.

نجح الحكام الفرنسيون والإنجليز أيضًا -كما استعرض الكاتب- على مدى قرنين أو ثلاثة في محو الهويات البدائية من رعاياهم. في الواقع، نجحوا من خلال صنع الأسطورة وخلق الذكريات «التاريخية» في إقناع معظم سكانهم بأنهم كانوا دائمًا فرنسيين وإنجليز، وبالتالي غرسوا في نفوسهم شعورًا بالفخر الوطني.

من هذا المنظور، لا يبدو أن تكون سوريا، والعراق، وليبيا وعدد من الدول العربية الأخرى التي أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى، على الرغم من عدم وجود التجانس الطائفي والعرقي وحدودها التي وضعها المستعمر، لا يبدو أن تكون مختلفة جدًا من سلائفها الأوروبيين في بداية ملحمة صنع دولتهم. ما هو مختلف هو العصر الذي ولدت فيه هذه الدول، وعدم وجود الوقت الكافي لبناء الدولة، ووجود المعايير الدولية التي تقيد جهود بناء الدولة، بما في ذلك توقعات بأنها سترقى إلى معايير السلوك «المتحضر» تجاه شعوبها.

الاختلاف الجوهري اليوم، مقارنة بأوروبا القرنين السابع عشر والثامن عشر، هو أن مؤسسي الدول الأوروبية الأوائل كان بإمكانهم تبني إستراتيجيات صارمة لتأسيس الدولة دون وجود خطر تدخل خارجي بارز يهدف ظاهريًّا إلى حماية حقوق الإنسان في دولهم، بينما أنظمة صدام، القذافي والأسد لا تمتلك هذه الرفاهية، وفقًا لما ذكره الكاتب.

الكاتب أشار إلى أن قضية أن التدخل الخارجي هو المسؤول الأول عن انهيار  دول العراق، ليبيا وسوريا أصبحت واضحةً وضوح الشمس. كان انهيار هذه الدول هو ما أنتج ظاهرتين توأمين هما الجهاد العنيف، الذي يتمثل الآن في داعش، والميليشيات الطائفية والصراعات بين الطوائف.

«مسئولية الحماية»

وقال الكاتب إنه لا الجهاد العنيف ولا الصراعات الطائفية بشكلها الحالي تعود في أصولها إلى التعاليم العقائدية للإسلام كما يعتقد الكثير من المراقبين الغربيين، وهي لا تعود أيضًا إلى الخلافات التاريخية في الإسلام والتي ظهرت 1400 عام. بل تعود إلى فشل الدولة في العالم العربي، الفشل الذي نجم عن قوى خارجية.

إن داعش وأشكال التطرف العنيف الأخرى، شأنها شأن الصراع السني الشيعي الذي نشهده حاليًا افي الشرق الأوسط، ليست سوى آثار جانبية. فشل الدولة الناجم عن التدخل الأجنبي هو أساس الخراب والفوضى التي نراها الآن في الشرق الأوسط، وما داعش والميليشيات الطائفية سوى قوى ثانوية استفادت من تفكك الدولة في العالم العربي والذي نجم بشكل أساسي عن التدخل الأجنبي الذي تذرع بحماية حقوق الإنسان للشعوب العربية، وهي الحجة التي طالما استخدمتها القوى الغربية الكبرى لتبرير مثل هذه التدخلات.

وشدد الكاتب على أن هذه ليست حجة لتبرير استمرار الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي. بل إنها من المفترض أن تقدم قصة تحذيرية تحتاجها الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى لتعلم بعض الدروس غير المستساغة، بحيث لا ينتهي بهم المقام في إحداث ضرر أكثر من النفع ينفع عن طريق تكرار نفس السياسات في المستقبل.

واختتم بقوله: «إن رد الفعل السلبي من السياسات التي تؤدي إلى فشل الدولة يمكن أن يكون أكثر خطورة من التقاعس في مواجهة الظلم، لأنه في غياب الأمن الذي يمكن تقديمه فقط من خلال دولة فاعلة، لا يمكن أن تزهر القيم الأخرى، بما في ذلك حقوق الإنسان. دعاة «مسئولية الحماية» من شأنهم أيضًا أن التفكير جيدًا في تجارب ما يسمى التدخلات «الإنسانية» في العالم العربي وخارجه».

 

رابط المادة الأصلي: هنا.



المصدر