الفلتان الأمني في سورية: التوظيف والمآلات


بقلم .

منذ اليوم الثاني لاندلاع مظاهرات درعا وبانياس، نشطت الآلة الدعائية لأجهزة السلطة الأمنية لنشر الشائعات بكثافةٍ لا تتيح للمتلّقي العادي التدقيق فيها، لأنّه قبل أن يفعل ذلك سيكون قد تلقى عدة شائعات إضافية، وتكون قد أدت الدور المطلوب منها لوضع كل فرد في جو من التشويش والهلع والإرباك والترقب، بحيث يبقى خياره “الأسلم” حينها.. الانكفاء إلى المنزل. بطبيعة الحال يجب أن تكون كلّ الشائعات من طبيعة أمنية تبعث على الخوف وتهدّد السلامة للأفراد والجماعات، “القبض على متسلّلين مسلحين، ضبط أجهزة رصد، إطلاق النار على روضة أطفال، تسميم أصناف من الأغذية، استعداد فئة اجتماعية لغزو جارتها، القبض على جواسيس إسرائيليين…. الخ “.

يبدو أنّ هذه الوسيلة كانت سلاح المرحلة الأولى من معركة جرى الإعداد لها جيداً، ستخوضها السلطة ضد المجتمع، حفاظاً على إذعانه المطلق، وضمان عدم تجرّؤ أيّ فئات منه على الخروج إلى الشارع والانضمام للحراك الشعبي، وسيكون من المفيد جداً في هذا السياق التركيز الإعلامي الرسمي -وشبه الرسمي – على تسفيه وتخوين وشيطنة كل من نزل إلى الشارع مطالباً بالتغيير، وعلى أقل تقدير وصفهم بـ “المغرر بهم” من قبل “جهات متآمرة”.

ولم تمضِ أسابيع قليلة حتى بُدِءَ بالمرحلة الثانية التي تمثلت بانسحاب أجهزة الدولة، من شرطة وأمن وضابطة عدلية وغيرها من الحضور وأداء مهامها المعتادة. فالشرطة لن تحضر إذا أُبلِغَت بحادثة اعتداء أو سطو، وعناصر الأمن لن يهتموا إذا ما أبلغوا عن مظاهر مسلحة وإطلاق نار. الشوارع خلت من عناصر المرور، وعمال الكهرباء لن يتحركوا لإصلاح عطل عادي في الشبكة. ونشط في هذه المرحلة سوق السلاح بتشجيع مباشر أو بالتغاضي من قبل أجهزة السلطة.

كان ذلك إيذاناً بتغييب أيّ حضور لقانون الدولة، بهدف تحفيز النزعات الغرائزية لارتكاب التجاوزات المختلفة بحق الأفراد والممتلكات، وبحق مؤسسات الدولة نفسها. بل وجرى في كثير من الأحيان تجميع بعض الأفراد – باستخدام الأقنية الأمنية والحزبية / البعثية من أجل “التصدي” لتظاهرة محتملة متسلحين بما تيسر من سلاح أبيض أو ناري، وهو ما تسبّب بالكثير من الانتهاكات، وبتوتر شديد بين فئات اجتماعية مختلفة مذهبياً.

كل هذا دون أي قلق من احتمال التعرض للمساءلة والمحاسبة وفق القانون، وهذا ما شكل بداية لمظاهر الفوضى المعمّمة التي تريد السلطة منها أن تقول للجميع: “فلْيُدِر كل منكم شؤونه بنفسه، أفراداً وجماعات”. وبطبيعة الحال انتشرت الحواجز المحلية – بسلاح مجهول المصدر – على مداخل القرى والبلدات لحمايتها من “الإرهابيين والمندسين”، وما نتج عن ذلك من الحوادث وبعض الضحايا.

المرحلة الثالثة الممتدة إلى اليوم، سِمتها الطاغية تكاثر الميليشيات المسلحة والإستطالات الناجمة عنها، بعضها يذهب إلى جبهات القتال لفترةٍ مؤقتة، وغالبيتها الساحقة تذهب إلى خطوط التماس، لتعود بـ “الغنائم”، ويبرز حضورها الكثيف في كل مكان بوصفها السلطة الحقيقية والوحيدة في جغرافيتها، لا رادع لها، ولا رادّ لمشيئتها.

وصار بإمكان أي شخص لديه بعض المال أن يجنّد حوله بضع عشراتٍ أو أكثر من الأشخاص، غالبيتهم من الشباب، ليشكل “مجموعة “، باسم وشعار، تحظى بغطاءٍ أمني، وبما يتطلب الأمر من سلاح وعتاد وبطاقات هوية عسكرية أو أمنية ومقرات، تحت عنوان “القوات المؤازرة للجيش”. أصحاب السوابق الجنائية والمطلوبون قضائياً والفارّون والمتخلفون عن الخدمة الإلزامية يشكلون الكتلة الأكبر في هذه المجموعات، إضافة إلى المهمّشين العاطلين عن العمل.

توفّرت إذن كل الشروط المناسبة لتكاثر حالات التسلّط، والقتل والسطو والخطف بهدف الفدية، وقطع الطرقات ووضع اليد على الأملاك العامة، وبعض المجموعات أعطى لنفسه  – أو أُعطيَ – صلاحية الاعتقال والتحقيق، وصار على كل مدنيّ أن يخشى الاحتكاك بهؤلاء، في الطريق، أمام محطة الوقود، في المتجر، على باب مؤسسة، في الشارع….. إلخ.

كل ذلك دون لحظِ أيّ جهدٍ ولو بسيط من قبل أجهزة الدولة للحدّ من هذه الانتهاكات، حتى وصل الأمر إلى الاعتداء الجسدي على عسكريين وعناصر أمن، ومرت بيسرٍ كغيرها. وفي الحالات التي لجأ فيها أهل المخطوف إلى أجهزة الأمن، سمعوا جواباً من نوع “دبّرو حالكو”.

التذمر والشكوى من هذه الممارسات بقيت محصورةً في الجلسات الخاصة، ولم تدفع لإظهار أيّ احتجاج عام، على العكس من ذلك، صار الناس – بمن فيهم المتضررون – يتبنون الحجج التي يجري تسويقها عن أنّ محاسبة هؤلاء ليس وقتها الآن، فالأولوية للحرب، ولا يمكن إلا التغاضي عن تجاوزاتهم طالما يقدمون الدعم للجيش في الحرب على ” الإرهاب”.

إنّ قوة قمع منفلتة ومتنمّرة كهذه لا يستقيم النظر إليها بوصفها نتيجة طبيعية للحروب الأهلية، كما يحدث غالباً في بلدان مرّت بهذه التجربة المدمرة،  فنحن نتحدث عن مناطق لا تزال تخضع لسيطرة السلطة، وأهلها بغالبيتهم الساحقة من الموالين لها، والخروج في تظاهرات الحراك الشعبي فيها تراوح بين المعدوم والمتواضع جداً، “قد تكون مدينة السلَمية الأكثر مساهمة، حيث دامت تظاهراتها حوالي الــ 5 أشهر”، ولم تشهد أعمالاً عسكرية أو أي صدام مسلح بينها وبين المعارضة بحيث تمهّد لهذا النمط من فوضى السلاح واستخدامه بلا أية ضوابط. كيف إذن يمكن تفسير هذه المظاهر؟

إن مصلحة السلطة التي تفتقد لأيّ شكلٍ من أشكال الشرعية، والتي تخوض حرب بقائها على حساب كل شيء وكلّ أحد، تكمن أيضاً في الإبقاء على هراوةٍ غليظة فوق رأس “جمهورها” نفسه، بذلك تضمن انشغاله الدائم بالسلامة والبقاء على قيد الحياة، وبتأمين ضروريات حياته البيولوجية التي تزداد صعوبةً يوماً بعد يوم. وتمنعه من التفكير حتى بالاحتجاج على فقدان الوقود مثلاً، أو بلورة أيّ مبادرة تعبّر عن مطالب القوى الاجتماعية أو السياسية وتظهيرها. فضلاً عن وضع المجتمع أمام خيارين: نحنُ…. أو هذه الفوضى. وهو ما أوتي ثماره عبر شريحة واسعة من المجتمع مازالت تردّد: ” كنا عايشين بأمان”.

أما عن حُجة “الآن ليس وقت المحاسبة”، فهي ليست خاطئة بالمطلق من زاوية مصلحة السلطة،  فالحاجة الشديدة للمقاتلين تتطلّب إرضاء المتطوعين بهذه المكاسب المادية والسلطوية، وأيّ محاولةٍ للحدّ من تجاوزاتهم ستدفع غالبيتهم للانسحاب والامتناع عن المشاركة في القتال. خاصةً إذا علمنا أنّ الكثير من حواجز هذه الميليشيات لا يوجد أيّ مبرّرٍ عسكريٍ أو أمنيٍ لها، ووظيفتها الوحيدة هي جني المال من العابرين والمهربين. يقال أن بعض المجموعات تعتمد التمويل الذاتي، أي على ما تجنيه من أعمال السرقة والتشليح على الحواجز لدفع رواتب العناصر المتطوّعة. أحد قادة المجموعات في منطقة الغاب اشتهر بسرقة الآليات والمعدات الصناعية الثقيلة، بعضها جرى تفكيكه من المعامل في محافظات أخرى، فضلاً عن كون إدارة المعركة العسكرية على مساحات واسعة تتطلّب الحفاظ على ولاء من تبقّى  من القيادات العسكرية والأمنية التي تعتبر هذه المكاسب المادية بمثابة المحفزات لها للمحافظة على ولائها ودوام انخراطها في الحرب.

الأمر الآخر الذي ظهر في السنتين الأخيرتين، هو تأمين موردٍ مالي إضافي لجهاتٍ عسكرية / أمنية محددة، يقال أنها تتبع الفرقة الرابعة التي  “تعهدت” ما يسمى بــ “الترفيق”، أي المرافقة المسلحة الإلزامية لشاحنات البضائع التي تعبّر المنطقة لحمايتها من السطو المحتمل  مقابل أجرٍ كبير، وهذا يتطلب الإبقاء على حالة التهديد المستمر على الطرقات العامة بوساطة عصابات السطو والخطف التي لا يشك أحد عموماً بشراكتها مع عدّة جهات نافذة.

في هذه الحالة الأخيرة، من غير الممكن تبيّن الحدود بين الموارد التي تذهب لجيوب العاملين في هذه المهمة أيّ الترفيق، وتلك التي تذهب إلى الجهة نفسها كمؤسسة، من أجل المساهمة في تمويل الحرب العسكرية، كي يمكن اعتبارها أحد إجراءات اقتصاد الحرب. ومهما كان فإنّ نمطاً من الفساد المسلح – إن صحت التسمية – صار جزءاً من المشهد السوري اليوم.

إن عصابةً حاكمة لديها “دولة”، ليس غريباً أن تعمل بوسائل وأخلاق العصابات، حتى في علاقتها بأقرب أنصارها. حيث لا يخفى على أحد أن شبكة واسعة من العاملين في كل القطاعات التي تحمل السلاح، تتقاسم الأموال المسروقة كما تفعل المافيات، لكن من النادر جداً في الأوساط الموالية هنا، أن يجري ربط هذه المظاهر بإرادة ومصلحة السلطة في أعلى قمة هرمها.

إنّ كثافة وانتشار ما أسميناه بالفساد المسلّح ومظاهر التسلّط يطرح أسئلةً مشروعة حول دور الميليشيات ومصير أفرادها في مرحلة ما بعد انتهاء النزاع العسكري، والمهمة الثقيلة التي ستواجهها أيّة حكومة شرعية سيأتي بها التغيير السياسي المنتظر وبعد نهاية النزاع العسكري في مواجهة مظاهر العسكرة وفوضى السلاح. فالواضح في المدى المنظور أنّ معاناة المجتمع السوري ستستمر في مواجهة انتهاكات هذه الفئة، وحدّة هذه المواجهة وأمدها يتعلّق بطبيعة الحل السياسي ونظام الحكم القادم، وقدرة مؤسساته وإرادتها في المعالجة الجدّية لهذه المظاهر.

هناك العديد من التجارب التي خاضتها دول شهدت نزاعات داخلية مسلحة طويلة الأجل أو حروباً أهلية، في سياق نزع السلاح وإعادة دمج المقاتلين السابقين في الحياة المدنية، ولدى الأمم المتحدة ومنظماتها سجل طويل في دعم والإشراف على هذه البرامج. لكن هناك بضع حقائق ينبغي أخذها بالاعتبار عند البدء بتصميم برامج نزع السلاح والدمج في الحالة السورية:

  1. لم يشارك جميع عناصر الميليشيات المسلحة في الحرب العسكرية على جبهات القتال، واقتصرت مساهمتهم في الوقوف على الحواجز في مناطقهم.
  2. لا ينحصر وجود السلاح بين المقاتلين أو أعضاء المجموعات، هناك من اقتنى السلاح بحجة الدفاع عن النفس.
  3. البعض حصل على السلاح للقيام بأعمال التشبيح والسطو والخطف ولم يشارك في القتال.
  4. ماذا لو استطاعت بعض المجموعات أن تعدم كل الوثائق والسجلات المتعلقة بها، بما فيها تلك التي بحوزة السلطات المشغلة لها ؟
النقاط السابقة تزيد من صعوبة وضع المعايير الدقيقة للتمييز بين المقاتل وسواه، وبالتالي التحديد الدقيق للفئات التي يجب أن تستهدفها برامج إعادة الدمج، ويجعلها طويلة الأجل مما يرفع من احتمال تزايد نسبة الجرائم والانتهاكات، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار أنّ الكثير ممن اعتادوا على مداخيل مالية عالية من عمليات السرقة أو الخطف سيكون من الصعب عليهم الاكتفاء بدخلٍ عادي.

يمكن في هذا المجال الإشارة إلى أهمية التركيز على النقاط التالية:

  1. إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والضابطة العدلية وفقاً لمعايير صارمة مما يعزز من قناعة حامل السلاح أنه محمي فعلا من دولته.
  2. جعل المرحلة الأولى من نزع السلاح عملية طوعية يجري خلالها العمل بكل الطرق على إعادة الثقة بمؤسسات الدولة.
  3. استخدام جزء من أموال الصناديق المنشأة في سياق برامج نزع السلاح وإعادة الدمج لتشجيع من دفع ثمن سلاحه للتخلي عنه.
  4. ثمة الكثير من حالات السرقة الصغيرة من غير حملة السلاح، تحت ضغط المصاعب الاقتصادية المتزايدة، بالتالي لا بد من الاهتمام بأشكال مبتكرة من التنمية وخلق فرص العمل.
  5. من المهم إشراك منظمات المجتمع المدني في برامج إعادة التأهيل، خاصةً على مستوى الوعي والاتجاهات و الميول.
إن جهداً جباراً ينتظر المجتمع السوري بعد انتهاء النزاع المسلح، ومهما طالت هذه الحرب، سيأتي يوم تسكت فيه البنادق ويطرح على الجميع السؤال: وماذا الآن؟ فمواجهة الآثار الاجتماعية للحرب الداخلية أصعب بكثير من عملية التغيير السياسي.

(الصورة الرئيسية: لوحة للفنان السوري منير الشعراني. المصدر: الصفحة الرسمية للفنان منير الشعراني)



المصدر