“متى يعلنون وفاة العرب”.. القصيدة الصرخة


لم يتبن شاعر عربي معاصر خطابا تثويرا وتنويرا كما فعل الشاعر الراحل نزار قباني (1923-1998م)، حيث كرّس جانبا مهما من نتاجه الإبداعي المذهل لاستنهاض همم العرب على تغيير واقعهم، ومواجهة التحديات التي تحول دون قيامة عربية منتظرة. ولكن يأس نزار من العرب دفعه في أيامه الأخيرة إلى إطلاق قصيدة/صرخة حملت عنوان: “متى يعلنون وفاة العرب”، تردد صداها في أربع جهات العالم العربي.

في منتصف التسعينات من القرن الفائت، كان المشهد العربي قاتما ينبئ أن أمة الضاد سائرة الى حواف الكارثة، يدفعها الجهل والغفلة إلى المجهول. وكأن نزار -وبعد تجربة حياة ثرية مليئة بالخيبات والحسرات على أمة العرب- شاهد ما لم يشاهده أحد من قبله من شعراء العربية المعاصرين، فاستشعر الخطر على امته، فكتب يحذرها، وينذرها من القادم الذي يستهدف هويتها. ولكن تحذيراته ذهبت أدراج رياح الصمت واليأس العربي الذي كانت تغذيه أنظمة استمرأت الذل، وكأني به كان كـ”بائع المرايا في أرض العميان”.

بعد سنوات قليلة على هذه القصيدة النبوءة خسرنا عاصمة الحضارة العربية، ودار سلامها، ودرة الألق العربي؛ خسرنا عاصمة الخلافة بغداد في نيسان من عام 2003، حيث مشت دبابات المحتل الامريكي على ظهورنا المحنية، ومن مدارج يأسنا وعجزنا انطلقت طائرات رعاة البقر لتعيث فسادا في العراق “جمجمة العرب”، ثم أسلموها للصفويين الجدد الذين عادوا إلى مدينة المنصور مرة أخرى، وقلوبهم تنضح بالحقد.

يقول نزار: “أنا منذ خمسينَ عاما، أراقبُ حال العربْ. وهم يرعدونَ، ولا يمُطرونْ… وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجونْ… وهم يعلِكونَ جلود البلاغةِ عَلْكا ولا يهضمونْ”. ولكن حال العرب قد تغيّر كثيرا عن منتصف التسعينات، فهم اليوم لا يردعون، ولا يدخلون حروبا، وحتى جلود البلاغة لا يعلكون. باتوا اليوم مجرد متفرجين على ما يجري في العراق، حيث استبد المحتل الفارسي، ويكاد أن يمحو هوية البوابة الشرقية للعالم العربي، ويتفرجون على دمشق وهي تكاد تفلت من ايدينا كما يتفلت الماء من أيدي المرتعشين، فـ “وداعا قريشٌ… وداعا كليبٌ… وداعا مُضَرْ…”.

لقد حدث ما حذر منه نزار قباني في قصيدته “رأيتُ العروبةَ معروضةً في مزادِ الأثاث القديمْ… ولكنني…ما رأيتُ العَرَبْ!”، فها هي أغلب البلدان العربية تعيش أوضاعا مزرية لافتقادها إلى مشروع عربي جامع، وسعي الجميع إلى خلاص فردي لن يؤدي إلا إلى مزيد من التشرذم، والارتهان للخارج.

أنعش الربيع العربي، وثورات الياسمين الآمال بعودة الوعي والروح إلى جسد الأمة المنهك، وردم القبر المفتوح، ولكن أنظمة الاستبداد، و”ظلم ذوي القربى”، وغفلتهم التي تحولت إلى عجز مقيم فتحت الباب أمام الغزاة الجدد الذين يحاولون تحويل الحلم إلى كابوس.

لم تكن “متى يعلنون وفاة العرب” هي أولى صرخات نزار قباني في وجه العرب مستنهضا هممهم، حيث سبق له كتابة العديد من القصائد التي ذكّرت بماض مجيد من أجل تغيير راهن متعب، وكسير. ففي قصيدة له عن معشوقته دمشق، يقول نزار:

      يا شـام أيـن هما عـينا معاويةٍ    وأيـن من زحموا بالمنكـب الشهبا

      فلا خيـول بني حمـدان راقصـةٌ      زهــواً… ولا المتنبي مالئٌ حـلبا

     وقبـر خالد في حـمصٍ نلامسـه     فـيرجف القبـر من زواره غـضبا

     يا ابنَ الوليـدِ.. ألا سيـفٌ تؤجّرهُ؟    فكلُّ أسيافنا قد أصبحـت خشـبا

رحل نزار قباني قبل أن يرى بلاده وقد صارت نهبا للمحتلين من روس، وإيرانيين، وقبل أن يرى دمشق وهي تنزف أهلها، وتتحول إلى مكان لطم، وندب، و”تطبير” للمنحدرين من كهوف التاريخ، والساعين إلى الانتقام من عاصمة الأمويين بطمس معالمها، وتبديل هويتها. لم يكن نزار قباني من الشعراء المهادنين للحكام فـ “الشعرُ ليـسَ حمامـاتٍ نـطيّرها نحوَ السماءِ، ولا ناياً.. وريحَ صَبا”. “لكنّهُ غضـبٌ طـالت أظـافـرهُ….ما أجبنَ الشعرَ إن لم يركبِ الغضبا”. ولم يتزلف الحكام العرب، ولم يجعل من شعره أسلوب تكسّب رخيص، كما فعل شعراء على مر العصور. لم يكن نزار قباني من شعراء السلاطين، أو مادح بلاط، بل كان شاعر ثورة قبل أن تبدأ، حيث زرع بذرة التمرد النبيل في عقول الشباب العربي. زرع بذرة التغيير نحو الأفضل، واختار الابتعاد عن مدينته، وحبيبته دمشق كي لا يهادن الطغاة الجدد الذين استولوا عليها ذات ليل أسود، يكابد مرارة النأي في مدينة الضباب لندن.

لو امتد العمر بنزار قباني لكان أسعد الناس بمنظر الميادين العربية وهي تمتلئ بشباب ثائر قرر تعديل مجرى التاريخ كله، وتحدي أنظمة القهر والفساد والهزيمة، وكنس عقود من التخلف، والتبعية، والفقر، والعبودية، فقد عاش عمره يرقب هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الأمة. ولكان أسعد الناس بشباب سوريا الذين وقفوا في وجه “أبي لهب” متحدين، ثائرين، يمدون جسومهم جسرا كي نعبر إلى “الشرق الجديد”.

ولد نزار قباني في ربيع عام 1923، وتوفي في ربيع عام 1998، وما بين الربيعين عاش حياة حافلة، وثرية، حيث أحدث ثورة في الشعر العربي؛ ثورة تجديد في المبنى، والمعنى. خاض غمار الدبلوماسية حيث عمل في العديد من سفارات سوريا في الخارج، متنقلا في عدة عواصم عربية وأجنبية، حتى استقر به المقام في ستينيات القرن الفائت في بيروت، حيث ترك العمل الدبلوماسي، وأسس فيها دارا للنشر تحمل اسمه، وتفرغ لكتابة الشعر. أهدى نزار قباني المكتبة العربية أكثر من أربعين ديوان شعر ونثر. في حياته العديد من المحطات المأساوية، منها وفاة ابنه توفيق بمرض القلب عن عمر 17 سنة، وكان طالباً بكلية الطب جامعة القاهرة، وهزيمة العرب عام 1967 والتي تركت أثرا عميقا في وجدانه، انعكس على نتاجه الشعري بشكل واضح، كما تأثر كثيرا بوفاة الزعيم جمال عبد الناصر ورثاه بقصيدة حملت عنوان: “قتلناك يا آخر الأنبياء”. ولكن المحطة الفاجعة في حياة نزار قباني كانت مقتل زوجته الثانية، وحبيبته العراقية بلقيس الراوي في تفجير طال السفارة العراقية في بيروت عام 1981، ورثاها بقصيدة تعد من عيون الشعر العربي المعاصر، صب فيها جام غضبه على واقع عربي. كان يرى بعين الشاعر أنه سائر إلى مزيد من الخراب، حتى وصل إلى منتصف التسعينات من القرن الفائت، فلم يحتمل نزار السكوت أكثر، فكتب محذرا، ومنبها، متسائلا بحسرة: “إذا أعلنوا ذاتَ يومٍ وفاةَ العربْ.. في أيِ مقبرةٍ يُدْفَنونْ؟ ومَن سوف يبكي عليهم؟ وليس لديهم بناتٌ… وليس لديهم بَنونْ… وليس هنالك حُزْنٌ، وليس هنالك مَن يحْزُنونْ”.



المصدر