نعمة التعدد الثقافي ولعنة الإقصاء


تُـعدُّ التعددية الثقافية جانباً فكريّاً مشرقاً وتنويريّاً في أيِّ مجتمع، فهي مدعاة لتوليد فكر جديد ومتجدد بتجدد هذه الثقافات وتطويرها من قبل الأفراد أو الجماعات التي تحملها، لينتهي بها الحال بتشكيل فسيفساء ثقافية تعبر عن مجتمع متكامل غير ذي صبغة واحدة أو فكر واحد، مجتمع يحمل من الأضداد والمتناقضات ما يكفي للنظر إلى الأحداث أو المفاهيم برؤى متعددة تضمن عدم الإجحاف بفاعلها وحاملها أو ظلمه.

ويُعدُّ التفاهم بين الثقافات المتعاكسة وتقبل أصحابها لبعضهم بعضاً ولأفكارهم وتعايشهم في إطار جغرافي وتاريخي واحد هو المعيار الرئيس لمعرفة مدى صحة مجتمع ما ومدى وعيه وتطوره الفكري، لكن ما يحدث في مجتمعاتنا هو النقيض، إذ تغرق عقول أغلبية المثقفين وغير المثقفين على حد سواء بالفكر والتفكير الإقصائيين والتصنيف “الاتهاميّ” على أساس إيديولوجي أو حزبي، فنسمع هذا ليبرالي، أو علماني، وإخواني، وسلفي … إلخ من هذه الصفات التي لا تنتهي.

أصحاب التفكير الإقصائي هذا الذين لم يكتفوا بالتهميش الفكريّ ومقاطعة المغاير، وصل بهم الأمر إلى حدِّ التصفيات الجسدية فور امتلاكهم السلطة أو القوة أو الغطاء السياسي، ولعلنا إذا نظرنا في حال مجتمعاتنا لرأينا حجم الانقسام والمعاداة بين أفرادها، وحجم الاغتيالات لأسباب فكرية، كان آخرها اغتيال ناهض حتر الصحفي الأردني على اختلاف أسباب اغتياله سواء كان بسبب الصورة التي نشرها وعُدَّت مسيئة للذات الإلهية أو بسبب ما أشار إليه ناشطون نشروا تسجيلاً مصوراً يُـظهر ناهض حتر يقول إنَّ السلطة في الأردن فاقدة للشرعية.

وبشكل أو بآخر تعود هذه الانقسامات إلى أساس فكري متضارب أو غير متشابه، وصل به الحدُّ في كثير من الأحيان إلى خلافات وصراعات انتهت بمعظمها إلى السلاح والحروب التي أورثت آلاف الضحايا.

في سوريا على سبيل المثال لا الحصر، لعلنا إن تساءلنا لماذا النظام قابل ثورة الشعب بالرصاص والمدافع والطائرات؟ ربما الجواب الفوري سيكون أنه يدافع عن كرسيه أو ثروته الاقتصادية، إلا أن الأمر أعقد من ذلك، فعلى الرغم من أن الكرسي والثروة يُعدان من الأسباب الرئيسية التي دفعته إلى ما فعل، لكن فعلته الشنعاء هذه التي أدت لمقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين تعود في حقيقتها لطريقة التفكير الإقصائية التي يفكر بها هذا النظام، وعدم تقبله لمن يقول له “لا” أو يعارض رأيه، أو يطرح رؤية أخرى لسياسية البلد، ولعل الجملة الشهيرة التي أطلقها شبيحة النظام “الأسد أو نحرق البلد” أكبر دليل على ذلك.

الأمر لا يقف عند النظام فحسب، بل لنتساءل أيضاً ما الذي يدفع إيران وحزب الله والميليشيات العراقية وغيرهم إلى الدفاع عن هذا النظام وإرسال شبابهم للقتال في سوريا، هل الكرسي والثروة؟ بالطبع لا، وإنما هو تفكير إيديولوجي ذو صبغة إقصائية لا تقبل الآخر الذي لا يحمل نفس الأفكار والمشاريع أو يعارضها.

ويبدو أن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) أكثر من يمثل هذه الاقصائية “بطريقة واضحة وصريحة” وصل به الحال للتفنن بقتل من يعارضه أو يخالف قوانينه، والتفنن بعرض جرائمه وتبريرها بحجج دينية.

ومن المؤسف بالأمر أنَّ معظم مَن عارض النظام حمل نفس طريقة تفكيره أيْ: الإقصائية، وفي كثير من الأحيان فعل نفس أفعاله من اعتقال المعارض له أو قتله.

وفي وسائل الإعلام، ولا أخص السورية فحسب، نرى حجم الأدلجة في طريقة صياغة الخبر والتعاطي معه والخلفيات التي توضع في نهايته، وتغييب لكثير من الحقائق لما يخدم تبعية الصحيفة أو الموقع أو القناة، ما أفقد الإعلام مهنيته ونزاهته وخلط الحقائق عند القراء والمشاهدين وزاد في التعصب الفكري، وكرس مفهوم العين الواحدة.

وبعيداً عن المجريات السياسية ودلالات التفكير الإقصائي فيها، تعود جذور الإقصائية في تفكيرنا إلى التربية التي نتلقاها في منازلنا، فالطفل منذ ولادته يكرس والداه جهداً كبيراً لأدلجته وتربيته وفق عاداتهم الاجتماعية ومعتقداتهم الدينية وانتمائهم السياسي وإقناعه أن الطريق الوحيد الصحيح في هذا الكوكب يمتثل بما تعلمه، ثم ما نلبث لنجد أنفسنا نتلقى نفس التفكير في المساجد والكنائس والمدارس، لنكبر دون أن يخطر ببالنا أن نفكر بما تربينا عليه والذي كثيراً ما نعتبره من المسلمات، ونعدُّ مَن يخرقها أو يتمرد عليها شاذاً، لتصبح فيما بعد المعيار الرئيس لمعرفة مدى صلاح أي بشريّ يصادفنا. وينتهي بنا المطاف لرفض أية ثقافة مغايرة حتى قبل أن نفكر بها.

وأبعد من ذلك، جذور التفكير الإقصائي ليست وليدة العقود القليلة الفائتة، وإنما هي موغلة في التاريخ البشري المليء بالحروب والصراعات والخلافات، التي تكتشف بعد قليل من التفكير في أسبابها العميقة أنها وليدة فكر لا يقبل وجود الآخر مطلقاً.

وأعمق من ذلك، التفكير الإقصائي لم يكن خاصّاً بالأفراد أو الجماعات، فكثير من التشريعات والقوانين بل والعقائد تحرم الغير من حقوقه، وتحد من فعاليته في المجتمع في أفضل أحوالها، مثل ما رأينا من إهمال الأكراد وتهميش ثقافتهم في سوريا من قبل نظام الأسد، أو مثل ما نرى في ضريبة الجزية التي تفرض على غير المسلم في المعتقد الإسلامي، وغيرها…إلخ.

ويبدو من الضيق في المكان هنا أن نتتبع التفكير الإقصائي سواء في الأحداث أو في القوانين والتشريعات. ومن الواضح أن لا سبيل للخلاص من هذه النوعية في التفكير، فأكاد أزعم أنها لعنة أزلية وأبدية ملاحقة للبشرية على مر التاريخ.

 



المصدر