د.السيد ولد أباه يكتب: اتجاهات الحقل السياسي الأميركي الجديد


د.السيد ولد أباه

ربما كانت الانتخابات الأميركية المقبلة أكثر المنافسات إثارة في تاريخ الولايات المتحدة باعتبار طبيعة مرشحيها، وهي من دون شك أكثر الانتخابات استقطاباً للاهتمام العربي نتيجة لما تعرفه العلاقات العربية – الأميركية من مصاعب وتحديات لا حاجة إلى إفاضة القول فيها.

كثيرون يتمنون فوز المرشحة الديمقراطية «هيلاري كلينتون» التي تبدو صوت الاعتدال والوجه التقليدي للسياسة الأميركية المألوفة فضلاً عن كونها معروفة لدى الحكومات العربية منذ أكثر من عشرين سنة منذ عهد زوجها الرئيس الأسبق «بيل كلينتون» وخلال توليها وزارة الخارجية في حقبة الرئيس الحالي «أوباما»، في حين يبدو منافسها «ترامب» رجلًا خطيراً، متهوراً، غريب الأطوار، لا سبيل إلى الاطمئنان إليه.

وعلى رغم هذا الميل لهيلاري كلينتون، فإن العرب يدركون أنها كانت شريكة في الحكم أيام أوباما على رغم كل ما يقال عن خلاف نسبي بينهما في بعض الملفات من بينها الملف الشرق أوسطي، ولذا فإن خياراتها الدبلوماسية وتوجهاتها الاستراتيجية لا تزال غير معروفة بالتفصيل ولا أحد بإمكانه أن يتوقع طبيعة سياساتها في المنطقة.
والواقع أن الحقل السياسي الأميركي شهد في السنوات الأخيرة تحولات نوعية نادراً ما يتم الوقوف عندها، انعكست في الحملة الانتخابية الراهنة فيما وراء جوانبها الاستعراضية التي لا تخلو منها المناسبات السياسية الكبرى في الولايات المتحدة.

ومن أبرز هذه التحولات التغير الجوهري الذي مَس الخريطة الأيديولوجية للحقل السياسي الأميركي الذي انتظم تقليدياً حول حزبين: الحزب الجمهوري المحافظ الذي هو حزب الرأسمالية الأميركية الحارس للقيم الدينية والعائلية المتجذر في الجنوب والغرب، والحزب الديمقراطي الليبرالي الذي هو حزب النخب المثقفة الجامعية والأقليات العرقية والدينية حارس القيم والحقوق المدنية (مع أن هذا التمايز لم يكن هو الأصل في نشأة الحزبين وإنما أصبح جلياً منذ منتصف القرن العشرين).

والتحولات الأيديولوجية في الحقل السياسي الأميركي بدأت منذ نهاية الحرب الباردة في اتجاهين: صعود التيار اليساري في الحزب الديمقراطي الذي هو أقرب للتشكيلات الاشتراكية الأوروبية، وبروز تيار المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري على حساب التيار المحافظ التقليدي الذي كان هو مركز القوة في الحزب. وهكذا ترمز حقبة «بيل كلينتون» للتحول الأول الذي أصبح أكثر ظهوراً في العهد الحالي، بينما ترمز حقبة الرئيس السابق «بوش الابن» للتحول الثاني الذي دخل منعرجاً جديداً مع حملة «ترامب».

ومع «بيل كلينتون» طرح الديمقراطيون صياغة جديدة للريادة الأميركية في العالم من خلال توطيد منزلة الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية والعمل على الاحتفاظ بمركز العولمة الاقتصادية في إطار مفهوم «الجيو- اقتصاد» geoeconomy الذي بلوره في التسعينيات المفكر الاقتصادي والاستراتيجي الأميركي «أدوارد لتواك» في كتابه «الحلم الأميركي في خطر» The endaregered américain dream. وفق هذا التصور لم تعد القوة العسكرية هي مفتاح التحكم في العلاقات الدولية الجديدة ولم يعد بمقدورها توفير عناصر القدرة الاستراتيجية الضرورية للقوى الدولية الكبرى، بل إن القوة الاقتصادية هي التي أصبحت مصدر الريادة والفاعلية في النظام الدولي ما بعد الحرب الباردة، ومن هنا نفهم الرؤية الاستراتيجية التي بلورها كلينتون من منطلق «اقتصادات الصراع» التي حولت المجال الآسيوي إلى حقل الاهتمام الأساسي للدبلوماسية الأميركية باعتباره خط المواجهة الاستراتيجية المقبلة.

ومع «بوش الابن» صعد تيار «المحافظين الجدد» الذي لا ينتمي إلى العائلة الجمهورية التقليدية، بل هو أقرب للتيار الثوري الراديكالي (أغلب رموزه ينحدرون أصلًا من الخط التروتسكي المتطرف) في مواقفه الاستراتيجية التي تربط المصالح الحيوية للولايات المتحدة بتصدير النموذج الأميركي في قيمه الديمقراطية، ربما كانت الساحة العربية الإسلامية إحدى ساحات تجريبه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

ومن الجلي أن «أوباما» يمثل الجيل الجديد من الديمقراطيين الليبراليين بالمنظور الأميركي لليبرالية الذي هو أقرب لليسار بالدلالة الأوروبية، ومن هنا نفهم سياساته الاجتماعية وقراراته الثورية بخصوص حقوق الأقليات القومية والجنسية، فضلًا عن مواقفه الدولية في الانفتاح على البلدان التي كانت تصنف أميركياً دول استبداد وإرهاب (كوبا وإيران على الأخص). ومع أن الاتجاه اليساري في الحزب كان أقرب إلى «بيرني ساندرس» المدعوم من الحركات النقابية العمالية، فإن «هيلاري كلينتون» أظهرت حرصاً واضحاً على الوفاء لتركة زوجها ولإصلاحات أوباما، حتى لو كانت أكثر استعداداً من سلفها للتدخل النشط في الأزمات الدولية واستخدام القوة العسكرية في حالة تهديد المصالح الحيوية الأميركية.

أما «ترامب» فيبدو أنه، وإن كانت ليست لديه رؤية أيديولوجية منسجمة ولا برنامج اجتماعي متماسك، يمثل اتجاه «المحافظين الأصيلين» paleoconservative الذين انتظموا في حركة «اليمين البديل» alt-right التي هي خليط من اتجاهات متباينة المشارب تلتقي في مواقف ثلاثة: منح الأولوية لاعتبارات الهوية على اعتبارات الاقتصاد، ورفض التعددية الثقافية وما يرتبط بها من سياسات الهجرة، ورفض سياسات التدخل الدولي واعتماد نهج الانكفاء على الداخل الأميركي. ومن هنا فإن ما تعبر عنه غرائبيات ترامب هو هذا المناخ الفكري الأيديولوجي المضطرب الذي من الخطأ إهماله في المعادلة السياسية الأميركية الجديدة.

المصدر: الاتحاد

د.السيد ولد أباه يكتب: اتجاهات الحقل السياسي الأميركي الجديد على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -

أخبار سوريا ميكرو سيريا