روسيا تدمّر حلب… والنظام “ينظّف” محيط دمشق من المعارضين


تمر هذه الأيام الذكرى الأولى للتدخل العسكري الروسي في سورية، والذي تحول إلى احتلال كامل الأوصاف، حيث باتت روسيا كما تفيد تقارير عدة، تتحكم بكل شاردة وواردة داخل بنية النظام العسكرية والأمنية والسياسية.

 

وتشير تقارير المنظمات الحقوقية إلى أن حصيلة المدنيين الذين قضوا في سورية خلال العام الأول من الاحتلال الروسي بلغت 3264 قتيلا، بينهم 911 طفلاً و619 سيدة. وقد سجلت معظم هذه الهجمات في مناطق تسيطر عليها قوات المعارضة السورية، وليس تنظيم “داعش” الذي تذرعت روسيا بأنها تدخلت في سورية من أجل محاربته. ومن أصل 147 هجوما جويا بالذخائر العنقودية سجلت خلال هذه الفترة، وقع 144 في مناطق يسيطر عليها الثوار، مقابل 3 هجمات حصلت في مناطق تحت سيطرة تنظيم داعش، كما استخدمت روسيا أسلحة حارقة ما لا يقل عن 48 مرة في مختلف المناطق السورية، إضافة إلى تعرض ما لا يقل عن 417 مركزاً حيوياً مدنياً للاعتداء. وأدت عمليات القصف والتدمير والقتل التي ارتكبتها القوات الروسية إلى تشريد مئات الآلاف من منازلهم، وتحويلهم إلى نازحين ولاجئين. وجميع هذه الممارسات صنفتها المنظمات الدولية الحقوقية كجرائم حرب، يتوجب أن تلقى مساءلة أمام المحاكم الدولية.

 

هجمة حلب

في ظل التراخي الدولي، والأميركي بشكل خاص، أمام تدخلها العسكري الدموي، تغول دور روسيا في سورية، بحيث ألغى تقريبا أدوار بقية الأطراف، وتحولت روسيا من داعم لنظام الأسد، إلى مشارك، وقائد لعملياته العسكرية ضد مجمل المدن السورية، وخاصة مدينة حلب التي تشهد منذ نحو أسبوعين، هجمة روسية غير مسبوقة حولت معظم أحيائها الشرقية وبناها التحتية إلى أنقاض، فيما تكمل قوات النظام والميليشيات الإيرانية التي تقاتل معها الدور الروسي من خلال هجمات تقوم بها من على الأرض لإحكام طوق الحصار على المدينة، ومحاولة التقدم داخل أحيائها، وقد أحرزت بالفعل بعض التقدم في هذا السياق من خلال احتلالها لمخيم حندرات ومناطق اخرى بجواره مثل معامل الشقيّف، لتصل إلى دوار الجندول.

كما تسعى قوات النظام إلى التقدم داخل أحياء المدينة بعد أن دمرت معظم مستشفياتها، وقطعت عنها مياه الشرب، وإن ظلت محاولات فاشلة في معظم الحالات بسبب تصدي مقاتلي المعارضة لها، خاصة من جهة أحياء سليمان الحلبي باتجاه الصاخور، وكرم الطراب من مطار النيرب العسكري، وبستان القصر من محور المشارقة.

ويأتي هذا التحرك كتحول في أسلوب القتال منذ أعوام، حيث تعتبر تلك الجبهات ثابتة نسبياً ولم تشهد تحريكا منذ أن تحددت في العام 2012، حين سيطرت قوات المعارضة على ما يقارب 70% من مدينة حلب.

وقد حول القصف الجنوني اليومي من الطائرات والمدفعية خلال الأسبوعين الماضيين، حلب إلى مدينة أشباح، حيث عشرات الجثث ما زالت تحت الأنقاض، بينما جرى بشكل منظم تدمير معظم المراكز الطبية في المدينة، وتدمير محطات المياه، مع تعطيل كل الجهود الدولية الرامية إلى إدخال مساعدات إنسانية للمدينة المحاصرة، والتي يعيش فيها زهاء 300 ألف نسمة.

هذا الوضع دفع ستيفن أوبريان، رئيس مكتب الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، إلى القول إن المدنيين الذي يتعرضون للقصف في مناطق شرق حلب المحاصرة يواجهون مستوى من الوحشية يجب ألا يتعرض له أي إنسان، مشيرا إلى أن نظام الرعاية الصحية في شرق حلب دمر بشكل شبه تام، بعد تعرض أكبر مستشفى في تلك المناطق إلى قصف ببراميل متفجرة.

وفي إطار تعزيز نهجها القائم على محاولات الحسم العسكري، أرسلت موسكو المزيد من الطائرات الحربية الحديثة إلى سورية، وفق ما كشفت صحيفة “إزفستيا” الروسية التي أكدت وصول عدد من قاذفات القنابل من طرازي “سوخوي-24″ و”سوخوي-34” إلى قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، فيما يجري الاستعداد لإرسال طائرات هجوم أرضي أيضاً.

يأتي ذلك بعد أن أعلن المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، بأنه لا يوجد إطار زمني لعملية روسيا العسكرية في سورية، معطيا الانطباع بأن روسيا ليست في عجلة من أمرها، ولا تعمل تحت ضغط الوقت، وفق ما حاولت الترويج له مصادر أميركية قائلة إن روسيا تُستنزف في سورية، وهي وتسعى للوصول إلى تفاهم مع الإدارة الأميركية الحالية قبل وصول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض قد تغير قواعد اللعبة في سورية.

وأرفقت روسيا تحركاتها العسكرية، بتحذيرات وجهتها إلى إدارة أوباما، من عواقب أي تحرك عسكري ضد نظام الأسد. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروف أنه في حال أقدم الأميركيون على مهاجمة جيش النظام السوري، سوف يكون لذلك نتائج مزلزلة وفظيعة ليس على سورية وحسب، بل في كل الشرق الأوسط، حسب تعبيرها. ورأت أنه في حال سقط النظام السوري سوف يسد من وصفتهم بالإرهابيين الفراغ، حسب تعبيرها.

 

شلل أميركي

غير أن الموقف الأميركي، وربما الأصح “اللاموقف” لا يبدو أنه بهذا الوارد أبدا، حيث تواصل روسيا هجومها البربري على حلب برغم حملة التنديد الدولي الواسعة، وبرغم الاشتباك السياسي والإعلامي الذي نشب بينها وبين الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة، والذي كشف مدى ضعف وتردد الإدارة الأميركية في كبح جماح العنجهية الروسية.

وتشير تسجيلات صوتية لوزير الخارجية الأميركي جون كيري، كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، إلى أن إدارة باراك أوباما ليس لديها ما تواجه به روسيا سوى ما يشبه التوسل حينا أو التهديدات الفارغة أحيانا أخرى، بالرغم من حديث الوزير كيري مرات عدة عن وجود “خطة ب” عند إدارة أوباما في حال فشل الجهود السياسية مع روسيا لوقف العنف.

ويعترف كيري خلال تلك التسجيلات التي جرت أثناء اجتماعه قبل أيام مع ناشطين سوريين وجماعات حقوقية، بعجزه وعجز بلاده عن تقديم أي شيء أو الضغط على روسيا، وأن مساعيه الدبلوماسية مع روسيا لم تأت بنتيجة بسبب غياب التهديد باستخدام القوة.

وإذ يؤكد التسريب على حقيقة وجود خلافات داخل إدارة أوباما بشأن كيفية التعاطي مع القضية السورية، يحاول كيري تبرير ضعف سياسة بلاده بهذا الشأن بأنه ليس لدى واشنطن غطاء قانوني للتدخل العسكري، بينما روسيا تمت دعوتها من قبل نظام الأسد! متجاهلا أن الرئيس أوباما طالما وصف بشار الأسد بأنه فاقد للشرعية، وبالتالي لا قيمة لدعوته روسيا للتدخل، ومتناسياً أيضا أن بلاده طالما تدخلت في بلدان أخرى دون أن يدعوها أحد لذلك.

وما يشير إلى درجة كبيرة من التخبط في السياسة الاميركية حيال سورية، دعوة كيري المعارضة السورية إلى المشاركة في انتخابات رئاسية يترشح لها بشار الأسد، معتبرا أن الأخير وفق مصادر المخابرات الأميركية “خائف جدا” من تصويت السوريين في الخارج ضده، قبل أن يستدرك بأن النظام والروس لن يسمحوا بإجراء انتخابات لا يضمنوا فوز الأسد فيها.

ومع هشاشة البدائل لدى واشنطن في التعامل مع منطق القوة الروسي، تبدو مسألة استئناف أو تعليق المفاوضات مع روسيا حول سورية، هي “الورقة” الوحيدة التي تلوح بها واشنطن في وجه موسكو التي أظهرت حتى الان عدم مبالاتها بهذه الورقة، من خلال مواصلة قصفها لحلب والمدن الأخرى بالرغم من التهديدات الأميركية.

وتقول واشنطن أن المحادثات مع روسيا في شأن سورية لا تزال في “العناية المركزة” ولا يمكن نعيها بعد. لكن وزير خارجيتها كيري لم يتوقف عن التواصل مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في الأيام الأخيرة، على أمل التوصل إلى اتفاق جديد يحفظ ماء وجه أميركا، ويريحها من هاجس البدائل غير الموجودة عمليا، وفق ما يستشف من تسريبات كيري وتصريحات أخرى خلف الكواليس لمسؤولين وخبراء أميركيين.

وباستثناء حديث عن سماح واشنطن لدول إقليمية بتزويد فصائل المعارضة السورية ببعض الأسلحة التقليدية مثل راجمات صواريخ أكثر تطورا، فإن إمكانية التدخل العسكري الأميركي المباشر بأية صورة تبدو مستبعدة تماما. وكانت مصادر صحفية تحدثت عن قائمة بالخيارات الأميركية المطروحة، وتشمل الإعلان رسمياً أن روسيا ليست شريكة في البحث عن حل دبلوماسي في سورية، وبدء النظر لها على أنها “مخرب للحل”، إضافة إلى خيارات سياسية وعسكرية.

 

محيط دمشق

امتد هذا التصعيد الروسي- السوري إلى مناطق أخرى، حيث ألقت مروحيات تابعة للنظام المزيد من البراميل المتفجرة على مناطق خان الشيح والديرخبية في ريف دمشق، وذلك في إطار حملتها المتواصلة على بلدات الغوطتين الغربية والشرقية، والتي تستهدف تأمين محيط العاصمة وانتزاع المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة، سواء بالوسائل العسكرية وفق سياسة القضم والهضم كما تفعل في الغوطة الشرقية، أو بالهدن والتسويات التي يتم بموجبها إبعاد المقاتلين إلى الشمال السوري، وأحيانا مع ذويهم أيضا، كما حصل في مناطق داريا والمعضمية والوعر والزبداني، وهي سيناريوهات تسعى إلى تكرارها أيضا مع بلدتي قدسيا والهامة.

وقد صعدت قوات النظام من قصفها لمدينتي قدسيا والهامة مستخدمة للمرة الأولى منذ 3 أعوام، الطيران المروحي في استهداف الأحياء السكنية، في محاولة للضغط على مقاتلي الجيش الحر للرضوخ إلى مطالبها والخروج من المنطقة إلى الشمال السوري.

وألقى الطيران المروحي برميلين متفجرين على حي الخابوري في مدينة الهامة، ما دفع بمئات العائلات للنزوح من المنطقة باتجاه مدينة قدسيا التي تواصلت فيها الاشتباكات بين مقاتلي المعارضة وقوات النظام على محور النازحين.

وتأتي الحملة العسكرية على مدن وبلدات المنطقة بهدف الضغط على مقاتلي المعارضة وإجبارهم للقبول بشروطه المتكررة، والتي تشمل تسليم أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة ومن ثم تهجيرهم وذويهم إلى مناطق الشمال السوري، على غرار ما حدث في داريا والوعر، ضمن سياسة التغيير الديمغرافي التي ينتهجها.

ويسعى النظام إلى تطبيق هذه السياسة في منطقة الغوطة الشرقية أيضاً، حيث تواصل قواته حملتها على الغوطة الشرقية منذ أشهر، والتي حققت في الأيام الأخيرة تقدما جديدا هناك، حيث سيطرت في المحور الشرقي على كتيبة الإشارة وبلدة حوش نصري ومزارع الريحان، لتصبح على مشارف بلدة الشيفونية المتاخمة لمدينة دوما، مع ما يعني ذلك من خسارة للمزيد من الأراضي الزراعية التي يستعين بمنتجاتها السكان لمقاومة الحصار المفروض على الغوطة منذ ثلاث سنوات.



المصدر