كائنات الحقيقة الافتراضية: إلى الوراء عُد


لم يكن متوقعاً أن الفيسبوك سيفتح القريحة للشعراء الجدد إلكترونياً، ليمارس كلٌّ مزاجيته على هواه، وبإلحاح يفرض ذاته الشعرية أو اللا شعرية على الملأ. لكن، والحال هذه، يرى معظم الشعراء القدامى، أي جيل ما قبل الإلكتروني، أن الحالة صحية جدّاً، ويمكن استشفاف العديد من النتائج المُرضية لتفسير حركة الأدب والشعر كجزء من الثقافة اليومية، من خلال المتابعة والمقارنة والجَرد.

يقول الشاعر المصري، علي منصور، لـ “العربي الجديد”: “لقد تردّدتُ كثيراً في مسألة نشر القصائد عبر صفحات العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي، ولم اُقدم عليها سوى مؤخّراً، فجرت سرقة بعض المقاطع، بل وشاعت باسم سارقها. لذا، لا ألجأ إليها إلّا في أضيق الحدود، وإن كانت السرقة تحدث أيضاً للأعمال المطبوعة ورقياً حين تُنشر عبر الإلكتروني”. يستطرد: “يبدو أنه ليس لنا مفرّ من هذا المأزق الذي، هو ربما، من سلبيات التكنولوجيا الحديثة، فلكل تطوّر مثالبه أيضاً”.

وعن تأثير ذلك كوسيط جديد في عملية النشر، يقول: “ساهم ذلك في خلط الغثّ بالثمين، بل وربمّا ساهم في تسيّد الرديء”، متابعاً: “يبدو أن ذلك يعكس فوضى الحرية المطلقة المتاحة للجميع، وغياب المعايير الضرورية للتمييز الفني والتقييم النقدي. هي ثورة بكل معنى الكلمة، ولا مفرّ من ضرورة استغلال كل ما تتيحه لتحقيق مشروعك، وإلا ستنجرف أمام طوفان الفيضان الفضائي”.

أمّا الشاعر المغربي، عز الدين بوركّة، وبنظرة مغايرة، فيرى أن ما يدوّنه على مواقع التواصل الاجتماعي مجرّد مسودّة لما قبل النشر ريثما يعيد كتابتها: “الفيسبوك، تحديداً هو بالنسبة إليّ ميلاد، لولاه ما كنت، كما هو الحال لمعظم شعراء اليوم والكتّاب الشباب منهم تحديداً، لذا أهديه شعري قرباناً”.

من جهته، يرى الشاعر العراقي، مازن المعموري، أن الجانب الافتراضي ذو تأثير قوي في الحياة الثقافية والإبداعية، ويعزو ذلك إلى ظهور قوّة مهيمنة جديدة تحدث بين المجتمعات البشرية والتي يُعني بها “التثاقف”؛ حيث تدلّ الكلمة على الآليات المعقّدة للاحتكاك الثقافي والتي، نتيجةً لها، تتعرّض مجتمعات أو مجموعات اجتماعية، إلى أن تتمثّل أو أن يُفرض عليها تمثُّل بعض الملامح القادمة من مجتمعات أخرى، ويتابع: “ينتمي هذا المصطلح إلى قاموس المدرسة المسماة (ثقافوية)، وبشكل أشمل إلى الفكر الإثنولوجي للستينيات، وذلك يعني أننا أمام نمط جديد من التواصل الثقافي والحضاري والاحتكاك المباشر بين الجماعات، سواءً المختلفة أو المؤتلفة، ما يقدّم لنا سرعة التأثير والتغيّر”.

عن رداءة الموضوع وجِدّته يقول لـ”العربي الجديد”: “في الظاهر قد يبدو الأمر سيئاً جداً، ولكننا لا ننسى أننا مجتمعات لا تحترم ما يُسمّى براءة الاختراع، وبالتالي فإن أي شيء سهل الأخذ سيكون في متناول الآخرين دون إحساس بالمسؤولية، وعليه سيكون من الواجب على المبدع الاحتراز والحذر، وليس الانقطاع والتخلّي عن التواصل مع القرّاء الجدد، وأعني هنا القارئ الحرّ، وليس المؤدلج”، متابعاً: “أصبحنا أمام كمّ هائل من النصوص التي تتراوح بين الخاطرة والبوح السريع والانطباعات العامّة والسهلة وحتّى الشتائم والسخافات والتقليعات والتحشيشات، ضمن إطار ما يُسمّى بالأدب من دون تصنيفه، فكل ما هو موجود في العالم الافتراضي يشكّل كلّاً واحداً، من التفاعل والأداء والصورة والفيلم، وحتّى شكل الصفحة الافتراضية يشكّل فضاءً للنصّ الجديد، لدرجة فقداننا القدرة على الحكم النقدي”.

رغم استخدامه المتواصل، يبقى العالم الافتراضي، لدى بعضهم، منطوياً على حقيقة الرغبة في العودة إلى الماضي، حيث لا سطوة سوى لنصاعة الورق وملمس القلم، غير أن الحياة السريعة تفرض شروطها حتّى على الفنون، سواءً بالتطوير أو بالعودة إلى ما كان سائداً في الماضي.



المصدر