محمود درويش.. شاعر الثورة السورية بعد رحيله


“حاصر حصارك لا مفر.. اضرب عدوك لا مفر.. سقطت ذراعك فالتقطها وسقطت قربك فالتقطني واضرب عدوك بي ..فأنت الآن حرٌ.. وحرٌ.. وحرٌ”. لطالما ردد السوريون على مدى سنوات ثورتهم هذا المقطع من قصيدة شهيرة لشاعر الثورة الفلسطينية الفذ محمود درويش حملت عنوان: “سقط القناع”، للتعبير عن حال المحاصرين من قبل قوات نظام الأسد وميليشيات طائفية على امتداد الجغرافيا السورية المدمّاة. كما يستعيد السوريون مقاطع من هذه القصيدة ومن قصائد أخرى لدرويش الذي كان مرآة الثورة الفلسطينية، وضميرها وصوتها، ليتحول بعد وفاته إلى شاعر للثورة السورية التي تتماهى في كثير من محطاتها مع الثورة الفلسطينية، بل تفوقها من حيث المأساوية، وتخلي العالم عن السوريين، وهم يواجهون أكثر من قوة احتلال تقتلهم بشتى صنوف الأسلحة القذرة، ويعانون أضعاف ما عانى الفلسطينيون.

لم يجد ناشطو الثورة السورية أفضل من تجربة محمود درويش النضالية والشعرية كي تكون معينهم في تجسيد بعض تفاصيل ما يحدث في بلادهم من استباحة تحولت إلى “مذبحة” يقف الأدب والفنون أمامها عاجزين عن الإحاطة بتفاصيلها المؤلمة حد الفجيعة، في ظل عجز تام طال المبدعين العرب الذين ما زالوا يقفون على ضفاف الجرح السوري يتهيبون الغوص في لجته.

المأساة السورية أخرست الألسن، وأعيت الأدباء والشعراء والمفكرين، فقد طالت كثيرا في وقت يتقزم كل شيء في هذا العالم الذي “يسير نحو تبلّد أخلاقي غير مسبوق، ترتفع فيه مستويات الخوف والكراهية، وترتفع معها أسهم السياسيين الذي يستثمرون في الخوف والكراهية والانعزال”، وفق مثقفين سوريين صرخوا في وجه العالم مؤخرا، ولكن هذه الصرخة تلاشت، وسط أصوات الطائرات، والصواريخ العابرة للقارات، والقنابل الارتجاجية والعنقودية، ولم تصل إلى مسامع من كان يجب أن تصل إلى مسامعه، فلا حياة لمن ينادون، في عالم يسير خبط عشواء إلى حد الهاوية الأخلاقية. توقف ناشطو الثورة السورية عند الكثير من قصائد محمود درويش التي وجدوا أنها تصوّر بحس رمزي عميق بعيد الغور ما يجري في سوريا، فرددوا طويلا:

 

“يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل… لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل.

نيرون مات..  ولم تمت روما.. بعينيها تقاتل.

وحبوب سنبلة تجف.. ستملأ الوادي سنابل”

 

قصيدة تلامس حال آلاف المعتقلين السوريين في معتقلات نظام الأسد التي تحولت إلى مسالخ بشرية لم يعرف التاريخ الإنساني كله مثيلا لها في الدموية والتوحش الأعمى، والتلذذ في قتل الآخر تحت وطأة أبشع وسائل التعذيب التي اخترعها الإنسان لقتل الإنسان. ولم يكن هناك أروع من “يا أمنا انتظري أمام الباب إنّا عائدون..”، لتشرح حال ملايين السوريين نازحين في بلادهم في مخيمات على حدود الروح، ولاجئين في المنافي القريبة، والبعيدة، وقد باتوا كالأيتام على موائد اللئام. “نحن لم نحلم بأكثر من حياة كـالحياة”.

عاش محمود درويش المولود في عام 1941 في قرية البروة الفلسطينية التي تقع في الجليل شرق ساحل عكا، عاش حياة غنية، وثرية، كان محورها وهاجسها النضال الدؤوب من أجل استعادة فلسطين، وعودة أهلها إلى ديارهم. ذاق مرارة اللجوء عندما كان في السادسة من عمره، حيث خرج مع أهله إلى جنوب لبنان في عام النكبة الفلسطينية عام 1948، ولكن سرعان ما عادت عائلته في العام التالي إلى فلسطين لتجد القرية مهدومة وقد أقيمت على أراضيها قرية زراعية إسرائيلية، فعاشت العائلة في إحدى قرى الشمال الفلسطيني “العودة إلى مكان الولادة لم تتحقق”، كما قال درويش. انتقل بعدها درويش إلى مدينة حيفا حيث أنهى فيها دراسته الثانوية، ثم عمل محرراً في جريدة “الاتحاد”، وكان ممنوعا من السفر لمدة عشر سنوات، واعتقل عدة مرات، وفرضت عليه الإقامة الجبرية من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وبات غريبا في وطنه.

غادر في عام 1970 إلى موسكو، حيث فقد هناك “الفكرة المثالية عن الشيوعية”، كما قال في حوار صحفي أُجري معه. كان الدخول إلى القاهرة في ذات العام من أهم الأحداث في حياة محمود درويش، حيث عمل في صحيفة الأهرام المصرية، واختلط مع أهم كتاب ومثقفي مصر، مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، صلاح عبد الصبور، وأحمد حجازي، وأمل دنقل، وكتب العديد من قصائده المهمة. انتقل إلى بيروت في عام 1973، وبقي فيها حتى العام 1982، وكانت من المحطات المفصلية في حياة درويش الشخصية والإبداعية، ثم غادرها إلى دمشق عن طريق مدينة طرابلس اللبنانية إثر مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا بحق اللاجئين الفلسطينيين، حيث كانت حياته في خطر، وظل دائم الحنين إلى بيروت “لبيروت في قلبي مكانة خاصة جداً”. ومن دمشق التحق درويش برئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في مدينة تونس.

 

لم تطل إقامة درويش في تونس، حيث غادر إلى باريس، وهناك تمت ولادته الشعرية الحقيقية، كما ذكر، وكانت إحدى قصائده المترجمة للفرنسية تحمل عنوان “في الشام”، وقد قال فيها ما ردده الكثيرون بعد رحيلهم عن دمشق:

لا فرق بين نهارها والليل
إلاّ بعض أشغال الحمام. هناك أرض
الحلْم عاليةٌ، ولكنَّ السماء تسير عاريةً
وتسكُنُ بين أهل الشام ..

بدأ درويش في فرنسا بإصدار مجلة الكرمل، قبل أن يختار العودة إلى العاصمة الأردنية عمان نهاية العام 1995 “لأنها المدينة الأقرب إلى فلسطين”، ثم عاد إلى وطنه حيث عاش في مدينة رام الله إثر توقيع اتفاق اوسلو بين السلطة الفلسطينية، و(اسرائيل) التي سمحت بزيارة أمه في مدينة حيفا.

توفي محمود درويش في الولايات المتحدة الأمريكية يوم السبت 9 أغسطس 2008 بعد إجراء عملية القلب المفتوح في المركز الطبي في هيوستن، التي دخل بعدها في غيبوبة أدت إلى وفاته. وروي جثمانه الثرى في 13 أغسطس في مدينة رام الله حيث خصصت له هناك قطعة أرض في قصر رام الله الثقافي. ترك محمود درويش إرثا شعريا لا يُضاهى، حيث أتعب من جاء ومن سيجيئ بعده من شعراء العربية، إذ يُقال أن الثقافة العربية لم تنجب شاعرا يوازيه، أو ينافسه في دفء اللغة وغزارتها، وعمقها، وصدقها، ورمزيتها العالية التي تكاد تصل إلى تخوم الفلسفة.

غادر محمود درويش الدنيا قبل عامين ونصف العام من اشتعال جذوة الربيع العربي، ولكنه اليوم حاضر بقوة في المشهد الثوري العربي، فما تمارسه السًلطات العربية فاق بكثير ما مارسته سلطة الاحتلال في فلسطين من قتل واعتقال وتهجير، وعبّر عنه درويش في نتاجه الإبداعي، فالطغاة والمحتلون سواء، والصهاينة باتوا تلاميذ في مدرسة الاستبداد والطغيان للأنظمة العربية، فـ “يا للمفارقة، وللعار”، فهم “لا يحفظون من الشعر شيئا كي يوقفوا المذبحة”.

 

 



المصدر