on
منير شحود يكتب: رُهاب السياسة في سورية
منير شحود
أفضت عقود عدة من احتكار السياسة إلى اغتراب السوريين عن ممارسة حقهم الطبيعي في المشاركة الديمقراطية في شؤون بلدهم، والتسليم بما ترسمه السياسات الحاكمة التي أفرغت مؤسسات الدولة من مضامينها، وحوّلتها إلى هياكل خاوية، فصارت المؤسسات ذاتها رمزًا لغياب السياسة أو الافتقار لتمثيل المصالح؛ على سبيل المثال، لا “مجلس الشعب” هو مجلس الدفاع عن قضايا الشعب، ولا “النقابات” هي التي تدافع عن أعضائها، ثم تحوَّل هذا الاغتراب، تدريجيًا، إلى خوفٍ غريزي مزمن من ممارسة السياسة، سواءً داخل المؤسسات؛ حيث لا مكان للرأي الآخر، أو خارجها؛ حيث يُتَّهم مَن يغامر بالعمل السياسي بـ “وهن نفسية الأمة”، أقلّه.
هكذا حمل السوريون الخوف من “ملامسة السياسة” كمعطفٍ ثقيلٍ في عزّ الصيف، ومع أن السنوات الخمس الماضية، التي شهدت “انفجارًا” عفويًا في ممارسة السياسة، قلّصت من حجم هذه الخوف، فإنّ شريحة مهمة مازالت تعيشه، وقد تحوّل إلى سمة ملتصقة بالشخصية وبما يمكن أن نعدّه ضربًا من العُصابات النفسية. يتجلّى هذا العُصاب كمتلازمة (Syndrome)؛ أي مجموعة من الأعراض التي تجتمع مع بعضها؛ لتشكل حالة طبية يُطلق عليها رُهاب السياسة (Politicophobia).
لم يستثنِ الخوف من السياسة حتى مَن سوّقوا لسياسات الاستبداد، الذين ترتبط مصلحتهم بانعدام السياسة والشفافية، ويدافعون عن “كبت السياسة” كسياسة، متمسكين بالخطابات والشعارات الجوفاء، التي تخفي الواقع أو تجمّله ولا تكشف عن مكنوناته وتحولاته، فهؤلاء قد تطيحهم “السياسة” أيضًا، عند اختلال المصالح والولاءات.
في الواقع، حملت كلمة سياسة في سورية معانيَ عدّة، إلا المعنى الذي يشير إلى ممارسة الحقوق والواجبات والحريات، واستحضرت معها الرعب والصمت، وربّما الغياب ذاته إنْ عبّرت عن نفسها بشيء من الوضوح، أو تمت الإحالة إليها؛ فكلّ قضية قد تكشف جانبًا من جوانب الفساد المعمَّم، كان يمكن تحويلها إلى “سياسة”، وبالتالي؛ وأدها في الحال، ما حوّل الحياة إلى بحيرة راكدة سادت فيها ردود الأفعال المتعلقة بتلبية حاجات الغرائز فحسب، في حين بقي الجزء الراقي، الفاعل والمبدع، من دماغ الإنسان مغيَّبًا إلى حدٍّ بعيد.
قد يأخذ “رُهاب السياسة” المظاهر التالية:
– الخوف من التغيير والتمسّك بما هو قائم؛ حتّى لو أضحى أقرب إلى الوهم، يتقاطع هذا العَرَض -إلى حدّ ما- مع تعلُّق السجين بسجّانه في متلازمة ستوكهولم؛
– الخوف من التفكير إلًا في حدود الهامش الذي قزّم السياسة إلى شعارات، أو خُطب للتعبير عن موالاة هذا النظام أو ذاك التنظيم؛ ما يضمن بعض الأمان الفعلي أو المتوهّم.
– الخوف من الآخر المختلف، على تعدد مستويات الاختلاف، السياسية والدينية والعرقية.. إلخ.
– التوتّر النفسي الذي يرافق الحالات التي تتطلب التعبير عن الرأي (أشعر بشيء منه في أثناء كتابة هذه الكلمات)، وما قد ينجم عنه -لاحقًا- من اضطرابات نفسية عضوية. ربّما أشعر بها.
– لوم الضحية، انطلاقُا من عدم القدرة، الواعية أو اللا واعية، على الاقتراب من أسّ المشكلة، المتمثِّل بمصدر الخوف.
إنّ الجمع بين هذه الأعراض هو ما يسمح بعدّها متلازمة عُصابية نفسية، تحتاج إلى العلاج والتفهّم، لا النّبذ، ويرتبط الشفاء منها بزوال حالة الاستبداد ذاتها، علاوة على فعل الزمن، وربما نشوء أجيال جديدة.
ومثلما يراوغ التاريخ حين ينسدّ مجراه الرئيس، أفضى “الكبت السياسي” إلى أن تحضر السياسة بعد “الانفجار السوري الكبير”، 2011، على نحوٍ مفاجئ وفي أجواءٍ من الحرية المعمّدة بالدم. ثم أفضت الانتكاسات التي تعرَّض لها مفهوم الحرية، منها استحضار صراعات عقائدية يُفترض أنّها صارت في ذمّة التاريخ، إلى أنْ تتوارى السياسة وراء سحابةٍ داكنة، ما حجب تقاطعات المصالح الفعلية في الواقع المُعاش.
بنتيجة ذلك، صار يُعبّر عن السياسة أحيانًا بالطريقة الإقصائية ذاتها، وعلى هيئة مفردات خطاب عدمي لاهوتي، مثل الجهاد والتكبير، واستحضار رموزٍ دينية تاريخية مقابل رموز الاستبداد الأرضية التي أُريد لها أن تتأبّد، خلافًا لكلّ عقلٍ ومنطق، وبالتالي؛ عكس الخطاب السياسي العدمي حالة الحرب العدمية، وبما يُراد له أن يخفي تنافس المصالح الإقليمية والدولية على الأرض السورية.
في هذه الأثناء، انكشف السوريون بأنّهم “على دين ملوكهم”، أو انطبقت عليهم مقولة “كما تكونون يولّ عليكم”. بيد أنّ ذلك فيه ظلم بالفعل؛ لأنّ السوريين كانوا غير فاعلين في التاريخ مرتين؛ مرةً حين تمّ كمّ أفواههم ومنعهم من ممارسة السياسة، ومرّة أخرى حين تمّ دفعهم قسرًا للهروب باتجاه الممرّ الوحيد المفتوح أمامهم، ماضيهم الديني الذي دنّسه دعاة وسياسيون ومشعوذون من كل الألوان؛ مع ذلك، لا يمكن تجاوز حالة تأنيب الضمير، التي يشعر بها كل منّا، بدرجاتٍ مختلفة، لأنّنا صمتنا هذه السنين كلها، وكثير من المبررات -هنا- لا تنفي هذه الحقيقة، لا بل أنّ معظمنا وقف متفرّجًا على زجّ أصحاب الرأي الآخر في السجون، أو حرمانهم من لقمة عيشهم على امتداد سنوات الاستبداد الطويلة.
قد يساعد توقّف الحرب في استعادة السياسة كلعبةٍ واقعية تعكس، على نحوٍ متزايد، مصالح السوريين أو تنافسهم ضمن هذه المصلحة؛ للتعبير عن مختلف وجهات النظر حول نظام سورية السياسي المُقبل، وإنّ استعادة الكلام في السياسة، بعيدًا عن الانفعالات الغرائزية، ستكون الخطوة التي تعيد السوريين، وربما معظم شعوب المنطقة، إلى ممارسة السياسة من خلال مؤسسات ديمقراطية وليدة، ستجد كثيرًا من العراقيل في طريقها؛ بسبب موروث استبدادي – ديني، حاصر فُسحات التفكير الحرّ، وجعل من الأفراد موضوعاتٍ للتلقين والوعظ، وعاملهم رعايا لا مواطنين.
المصدر: جيرون
منير شحود يكتب: رُهاب السياسة في سورية على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -