هدن النظام مع المناطق الثائرة: الموت أو التوقيع


يتابع نظام الأسد محاولاته لعقد هدن في مناطق مختلفة، تتميز بالمجمل بكونها مناطق ثائرة، إضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لبعضها ضمن خطط النظام في التغيير الديمغرافي الذي يسعى إليه.

تحاول “صدى الشام” في هذا التحقيق، تسليط الضوء على أبرز الهدن التي أجراها النظام في مناطق كانت تستنزف قوّته وتؤدي لزيادة الخسائر في جيشه والميليشيات الموالية له، بعد أن أسس الأسد “وزارة المصالحة الوطنية” للمضي في هذه المهمّة، فيما تأسس مركز خاص للمصالحات والهدن يُشرف عليه ضبّاط روس، ومهمته تتناسب مع مهمة “وزارة المصالحة الوطنية” في حكومة الأسد.

ولعل أهم ما نتج عن هذه الهدن، هو إراحة النظام من جبهات قوية ضدّه، إضافة لتفريغ عدة مناطق من سكّانها.

تُعتبر سياسة الحصار القاتل من أبرز الطرق التي يتّبعها النظام لإجبار مناطق ثائرة ضده على وقف إطلاق النار فيها، وجعلها مُجمّدة دون حراك ثوري.

تجميد ثوري

اعتبر عضو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية يحيى مكتبي، أن النظام يكذب عندما يقول أنه بصدد مساعدة هذه المناطق وفك الحصار عنها، لأن معظم وعوده خلال إبرام الهدن ذهبت أدراج الرياح.

وقال مكتبي في حديثٍ لـ “صدى الشام”: “إن الهدف الأول من عقد هذه الهدن مع مناطق ثائرة ضد الأسد، هو تبريد هذه المناطق، والتخلّص من خاصرة ثورية مهمة، ليقوم باستجماع قواته من جديد، ولملمة الخسارات التي مُني بها”.

واسترجع مكتبي بعض خطابات رئيس النظام السوري بشار الأسد، عندما تحدّث قُبيل التدخّل الروسي قائلاً: “سوف نخلي بعض المناطق من أجل المحافظة على مناطق أخرى”، في إشارة لانسحابه من بعض المناطق نتيجة خسارته الفادحة. غير أنه وبعد العدوان الروسي، الذي أعاد إليه عدداً من المناطق، تغيّرت لكنة حديثه وباتت أكثر قوة، لا سيما عندما أصرًّ على جملة “سنعيد كل المناطق التي خرجت منّا إلى سُلطتنا”. ولفت مكتبي إلى أن الهدن ليست أكثر من إحدى أساليب النظام لتحقيق مكاسب جغرافية جديدة من خلالها.

ووصف مكتبي هذه الهدن بعملية “التبريد الموضعي”، لكنه اعتبر أن نتيجتها آنية فقط، مشيراً إلى أن النظام وبعد توقيع هدنته مع المعضمية قبل فترة، عاد لابتزاز الأهالي وإخراجهم عند أو فرصة لذلك.

دوافع المعارضة لعقد الهدن

كان الموت جوعاً وقصفاً هو البديل الوحيد عن إجراء هذه الهدن التي صبّت لصالح النظام، حيث أخضعت قوات الأسد والميليشيات الموالية المناطق الثائرة لحصارٍ شديد، وقطعت عنها معظم الإغاثات والأغذية، وبالمقابل أمطرتها بوابل من القصف اليومي الشديد لإجبارها على توقيع الاتفاق.

يقول المتحدث باسم مركز حمص الإعلامي، محمد السباعي، في حديثٍ لـ “صدى الشام”، إن الهدف الأساسي الذي دفع الثوار للتوقيع على هدنة الوعر، هو إخراج المعتقلين البالغ عددهم حوالي 7500 معتقل، عبر إفصاح النظام عن مصير هؤلاء المعتقلين أولا ثم إخراجهم لاحقاً”، مضيفاً أن “الدافع الثاني يتمثّل بإيقاف القصف على حوالي 75 ألف مدني محاصرين داخل الحي وإدخال المعونات إليهم”.

حتى الآن، لا يعتقد السباعي أن الهدنة نجحت تماماً كونها مرتبطة بالشق الخاص بالمعتقلين. ويوضح السباعي أن حي الوعر شهد أكثر من هدنة سابقاً وكان مصيرها الفشل، كون النظام لم يلتزم بوعوده في الكشف عن مصير معتقلي حي الوعر، أي أنه “أخل بأحد أهم بنود الاتفاق”، مشيراً إلى أن الطرف المفاوض عن حي الوعر التزم بتنفيذ جميع بنود الاتفاق على أكمل وجه. لكنه اعتبر أن النظام قد يعود للإخلال ببند المعتقلين، وإفشال الهدنة وإعادة الحي إلى القصف والحصار طمعاً بالتنازل عن هذا البند، لافتاً إلى أن ما تم تنفيذه من بنود الهدنة هو فتح الطرقات وإيقاف القصف، وإدخال كميات من الخضار واللبن والبيض، لكنه لم يدخل أي مواد قابلة للتخزين، لكي لا يتم استخدامها في حالات حصار مفترضة.

الصحافي إياد الصالح يؤيد رأي السباعي، إذ قال في حديثٍ لـ”صدى الشام”، أن “العامل الأبرز الذي دفع المعارضة السورية للموافقة على الهدن التي تقضي بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات هو الخوف على حياة المدنيين الذين باتوا يواجهون مخاطر كبيرة في هذه المناطق، وهو ما شكّل الضغط الأكبر على المعارضة لتوقع الهدنة مع النظام”.

ويشرح العميد الركن أحمد رحال أن “المعارضة السورية لم تسعَ إلى تلك الهدن وإنما فُرضت عليها”. وبيّن رحال في حديثٍ لـ”صدى الشام”، أن “روسيا هي الراعي الرسمي والأول للمصالحات، وهي التي تسعى خلف الموضوع لكسب مناطق جديدة لصالح النظام”، ووصف رحال الهدن بـ “إما تموت أو توقّع”.

وأضاف رحال أن الحصار هو جريمة حرب في القانون الدولي بالمعنى المطلق للكلمة، لكن الأمم المتحدة لم تواجه النظام بل ساعدته على حصار المناطق، معتبراً أن هذه الهدن هي “قنبلة موقوتة” ستنفجر بوجه النظام، لأن الشعب لم يخرج بثورة ضده ليصالحه ويتفق معه.

النظام يكذب ببند المعتقلين

ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً، لماذا يتمسّك نظام الأسد بعدم إطلاق سراح المعتقلين أو حتى الكشف عن مصيرهم حتى الآن، ويقوم بعرقلة جميع الهدن من أجل هذا البند؟

يجيب على هذا السؤال العميد الركن أحمد رحال، الذي أكّد لـ”صدى الشام”، أن “النظام قام بتصفية الجزء الأكبر داخل المعتقلات، ولا يستطيع إطلاق سراح ما بقي منهم، لأن ذلك سيكشف مقتل النسبة الأكبر منهم في سجونه”

وأردف رحال أن “النظام قتل 80% من معتقلي داريا البالغ عددهم 4 آلاف شخص، وقتل أعداداً مماثلة من معتقلي الوعر، لذلك يتهرّب منذ فترة كبيرة من تنفيذ بند إطلاق سرحاهم”، مشيراً إلى أن “التسريبات والصور الكثيرة التي تُنشر لجثث معتقلين قتلهم النظام في سجونه تُعتبر خير دليل على ذلك، وإذا لم يكن قد قتهم فلماذا لا يخرجهم؟”.

هدن أدت للتفريغ

يوثّق هذا التحقيق نوعين من الهدن، الأولى أدت لتجميد العمل الثوري مع بقاء السكّان مثل هدن: “برزة قدسيا والهامة، الوعر، يلدا وببيلا”، أما الثانية فانتهت بتفريغ هذه المناطق من سكّانها لصالح النظام، ومنها “حمص القديمة، الزبداني، مضايا، داريا، والمعضمية”.

يستثني المصّور الميداني عماد معروف مدينة الزبداني بريف دمشق من قائمة الهدن التي فرّغت المناطق، كون الزبداني لم تستسلم إلا بعد أن بقي منها أقل من 2 كيلو متراً بأيدي المعارضة، فيما انسدّت كل الآفاق أمام المقاتلين.

ويقول العميد الركن أحمد رحال أن “طبيعة المنطقة تُحدّد أهمية تفريغها من سكّانها، فالأحياء الدمشقية مثل برزة والقابون ويلدا لا يمكن مقارنتها بداريا والمناطق الغربية، كون تأثير الأولى ضعيف جداً على مخطّط النظام في تفريغ غرب دمشق”.

وذكر رحال أن داريا على سبيل المثال، فيها المرقد الشيعي “السيدة سُكينة” وتتصل بمنطقة المزة القريبة من السفارة الإيرانية والمعضمية وحي بساتين الرازي الذي يتم تفريغه بداعي التنظيم، إضافة لكون داريا على مرمى حجر من مناطق طائفة النظام في المزة والسومرية، وقريبة من مطار المزة العسكري”. كما أشار إلى “حزام الأبراج الإيرانية” غرب دمشق، والذي يمتد من منطقة السومرية حتى منطقة السيدة زينب ويمر بالتضامن وداريا والقدم وعسالي وخلق الرازي، حيث تبلغ مساحته 1200 دونم من غرب دمشق.

شراكة الأمم المتحدة

كل الهدن التي جمّدت العمل الثوري خالفت القوانين الدولية ومواثيق مجلس الأمن، إلا أن الأمم المتحدة لم تحرّك ساكناً، بل كانت شريكة للنظام في عمليات التهجير، فيما تقاعست عن تأمين الحماية للمدنيين، ولم تتدخّل لفك الحصار الذي يُعتبر من أحد مهام مجلس الأمن الدولي.

يعتبر العميد الركن أحمد رحال أن “الأمم المتحدة تجاوزت مرحلة التواطؤ إلى الشراكة مع النظام في حصار النظام، لأنها لم تفك الحصار عن المناطق التي حاصرها النظام، وهو ما سهّل على النظام إجبار هذه المناطق على توقيع الهدن وتحقيق هدفه في إخراج مناطق ثائرة عن دارة الصراع”.

وذكر رحال أن “أبرز بنود اتفاق الأمم المتحدة الذي وقعت عليه الدول الأعضاء ومن ضمنها روسيا، بأن أي عملية سلام مرهونة بثلاثة بنود أساسية، وهي فك الحصار عن المناطق المحاصرة، وإدخال المعونات إليها، إضافة إلى إطلاق سراح المعتقلين”، واستطرد بأن “الأمم المتحدة لو نفذت هذه البنود لما سمحت لنظام الأسد بإجبار المناطق المحاصرة على توقيع الهدن ومن ثم تفريغها”.

واعتبر عضو “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” يحيى مكتبي، أن “هناك خللٌ في المنظمة الدولية، لا سيما مع وجود دولة دائمة في هذه المنظومة وتمارس الإرهاب”، في إشارة منه إلى روسيا.

واعتبر مكتبي أن “قصف الأسواق الشعبية” يدخل ضمن سياسية الحصار والتجويع، لأن عملية القصف لهذه الأسواق والتي تم استهدافها من قبل طيران الأسد والطيران الروسي، تؤدي إلى توقّف الأسواق نسبياً ورفع الأسعار، وبالتالي فإن شريحة واسعة من الناس لم تعد تستطيع شراء الأغذية، وهذا الجانب الإنساني يدخل في إطار الحصار حتى لو كانت المنطقة غير محاصرة.

محاولات لدفع الملف

بحسب مكتبي: “نحن كائتلاف، ندفع في المقام الأول بهذا الملف في واجهة الملفات الأخرى، عبر التواصل السياسي من خلال مذكرات للدول الصديقة والأمم المتحدة والجامعة العربية ومجلس حقوق الإنسان”، وقد اعتبر أن تلك الإجراءات هي “إجراءات مضطربة وترتفع وتيرتها مع ارتفاع وتيرة العنف”.

وأشار مكتبي إلى أن المشكلة الأولى تتمثّل بالعجز الذي طال مؤسسة الأمم المتحدة قائلاً: “لسنا في وارد المزاودة على السوريين في الداخل الذين يعيشون القصف والجوع والحصار، ولكننا نطالب المنظومة الدولية بتحمّل مسؤولياتها تجاه الهدن التي يبرمها النظام بضغط السلاح، وألا ترسل الباصات الخضراء بدلاً من القبعات الزرقاء”.

 

 



المصدر