حلب الحصار والخراب الاجتماعي

تحادثني صديقتي عبر وسائل التواصل البسيطة المتاحة بين يديها، فترسل لي صورة لرغيف خبز يُطهى على الصاج، وتمازحني قائلة: “الحمد لله اشترينا البارحة ليترين من “الكاز”؛ فتمكنت من الخبز”، أتلعثم ولا أدري بم أجيب. ولكن الصاعق في الأمر، جاء حين تحدثنا عن أسعار المواد الغذائية، ومتطلبات الحياة الأساسية، والأوضاع الاجتماعية التي تعيشها “حلب”. حقيقة، مفاجأتي الأكبر هي أنني سمعت عن حلب غير تلك التي أعرفها، فلا العلاقات الاجتماعية باتت كسابقتها، ولا طقوس الفرح والحزن عادة مشابهة لتلك التي اعتادها أهل حلب، ولا حتى أولويات الناس تشبه تلك القديمة. ما يثير الألم، أن “حلب” حاضرة، اليوم، في المنفى أكثر منها في داخل المدينة، التي أنهكتها السنوات العجاف، والضمائر المتحجرة؛ حلب التي استُنزف فيها الإنسان حتى آخر رمق، وأضحى همّ الناس الوحيد هو حماية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أيًا كانت السبل المتاحة. حواجز تقطع الطريق على العلاقات الاجتماعية حين تستمع إلى معاناة أهالي حلب، من أفواههم، تدرك كم هي بسيطة وتافهة، وسائل الحياة المتاحة لديهم، فصديقتي حدثتني عن استهداف المبنى الذي يقيم فيه والداها في حي “المشهد”، في حين أنها متزوجة وتقيم مع زوجها في حي “السكري”؛ على الرغم من أنه في السابق، كان لا يكاد ينقضي أسبوع دون أن تدعوهما إلى زيارتها، أو تتوجه لزيارتهما، ولكنها منذ أكثر من 3 أشهر لم تر أيًا منهما، ولم تتمكن من التوجه لزيارتهما؛ بسبب ارتفاع أجور التنقلات، فضلًا عن فقدان الأمان؛ ما يجعلها تفضل البقاء في بيتها، على التوجه في رحلة غير محسوبة النتائج. شكل الحياة الاجتماعية تغير تمامًا، فحلب التي لم تكن تنام، في أفراحها التي تستمر حتى الصباح، في علاقاتها الاجتماعية، تبدّلت، ولم يعد هنالك مكان للفرح، إذ لا يكاد يخلو بيت من البيوت من شهيد أو معاق أو منكوب، والدمار الهائل لم يترك لأهلها فرصة للاحتفاء بشيء يذكر، ومع ذلك؛ ما زال من تبقى من أبنائها على قيد الحياة، يبحثون عن فرصة بسيطة للفرح، حتى ولو كانت على أنقاض بيوتهم. أما تكاليف الحياة الباهظة، فتلك مصيبة أخرى أرخت بظلالها على طبيعة العلاقات الاجتماعية، المهور لم تعد من الذهب كما في السابق، بل إن معدّل سن الزواج انخفض بشكل ملحوظ، نتيجة الأوضاع الراهنة، بسبب توقف العملية التعليمية من ناحية، وخوف الأهالي على البنات من الوحدة والتشرّد، في حال تعرّضهن لمكروه، من ناحية أخرى. الأطباق الحلبية مفقودة في حلب يؤسفني أنني حين أدخل المطاعم السورية، أو أدعى إلى وليمة من إحدى الأسر الحلبية، أجد فيها ما لذّ وطاب من الأطعمة، ومن أطباق حلب التي تعدّ مفخرة المطبخ السوري. غير أن من بقوا داخل حلب، باتوا غير قادرين على طبخ أي منها، فحين يصل سعر عبوة الغاز في حلب المحاصرة، إلى 65 ألف ليرة سورية، وسعر كيلو اللحم الضأن إلى 8000 ليرة سورية، سيكون من الاستحالة بمكان طهو طبق الكبة على سبيل المثال، أو إقامة وليمة، وإن كانت أبسط بكثير من تلك التي حضرتها خارج الأراضي السورية. أما من هم موجودون في حلب الغربية، فهم إما ليسوا من أبناء حلب الأصليين، ولن يتمكنوا من إيصال الخصوصية المرتبطة بـ “النفس”، كما يطيب لأبناء حلب تسميته، أو ربما ممن لا يعنون بأمر حلب نهائيًا، ولا يتمسكون بتراثها، أو ممن أسقط في يدهم، كما هو حال معظم السوريين. لحلب طقوس خاصة في الأفراح والأتراح، يتسيّدها مطبخها، وموائدها العامرة، وعلاقاتها الاجتماعية التي تتسم بحميمية خاصة، هذه الطقوس التي تجدها حاضرة في تجمعات أبناء حلب في المنافي الإجبارية، وفي دول اللجوء والاغتراب. فمن السهل عليك أن تميز أنك في طريقك إلى دخول مطعم يملكه شخص من أبناء حلب، حين تسمع صوت “صباح فخري” يصدح، وتأتيك القائمة فيها ما لذ وطاب من المأكولات الحلبية؛ كل هذه القضايا لم تعد في متناول أبناء حلب الموجودين في الداخل، والذين ترتبط تفاصيل حياتهم بالأمبيرات وساعات التقنين، وتعبئة صهاريج الماء… إلخ،  فضلًا عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية في القسم الغربي من حلب، وغيابها عن القسم المحاصر منها. المرأة الحلبية والطفل أكبر الضحايا النسوة الحلبيات نلن نصيبهنّ هنّ الأخريات، لم يعدن يعنين بمظهرهن أو بحالة الظهور اجتماعيًا كما السابق، فالثمن الكبير الذي دفعته حلب، تحملت المرأة الحيز الأكبر منه، حتى السيدات المترفات اللواتي كن يعشن في أحوال جيدة، بتن اليوم مضطرات للتأقلم مع حال البلد، ومورست عليهن الضغوط الاجتماعية التي لم تعد مرتبطة بالوضع المادي، ومن تركن البلاد منهن، في الأغلب، بتن مضطرات للعيش في أحوال معيشية أدنى من تلك التي عشتها في سورية، خاصة مع الفارق الكبير بين العملة السورية والعملة المتداولة في دول الجوار، وكذلك انعدام فرص العمل، إضافة إلى عائق اللغة في تركيا، على سبيل المثال. أما الأطفال الذين كانوا يعيشون في أوضاع مستقرة، باتوا يعانون، كما كل أطفال سورية، من حالة التخبط، نتيجة النزوح المستمر، غير أن أطفال حلب وإدلب على وجه الخصوص، خبروا الحرب بكل تفاصيلها، وكان من الصعوبة بمكان تحييدهم عما يجري في البلد؛ بسبب تأثر مناطقهم بشكل كبير، وغياب آليات المعالجة، بل تصاعد وتيرة العنف مع دخول مرحلة الطيران الروسي، وما تبعها من تصعيد من فصائل المعارضة على جبهة حلب الغربية. فهؤلاء الأطفال، أضحى التعليم هاجسهم الأكبر، ولا سيما بعد القرارات الجديدة المتخذة في ما يخص الطلاب السوريين، ومحاولات التضييق على مدارس السوريين في دول النزوح واللجوء. تحدثني صديقتي عن أبناء الحارة الذين باتت لعبتهم المفضلة “معلمة وطلاب”، بدلًا من “عسكر وحرامية”، تسرد كيف طلبوا منها جرائد ليوزعوها، على أنها كتب، بعدما كانوا يوزعون المسدسات… أدرك حينها، كم أنهك هؤلاء الأطفال من الحرب ومفرداتها، وكم بات أهل حلب يتوقون إلى قضاء يوم كامل على وجه الأرض، دون أن يسمعوا صفارات إنذارن تضطرهم إلى النزول إلى قبورهم الموقتة، التي غالبًا ما تتحول إلى دائمة، فيدفنون تحت أنقاضها، أحياء في بعض الأحايين. المصدر