“نحن في الجحيم” من الركبان: 74 ألف سوري ينازعون


“نحن في الجحيم”، بهذه الكلمات المختصرة والصادمة، يصف أبو محمود حال آلاف السوريين الذين تقطعّت بهم السبل، وباتوا نازحين في بلادهم داخل مخيم الركبان، على الحدود الأردنية السورية، والذي بات عنواناً آخر للباحثين، على قلتهم، عن مأساة متعددة الوجوه حوّلت ملايين السوريين إلى نازحين ولاجئين، وسط مخاوف مما هو مقبل، تحديداً بعد قرار السلطات الأردنية ترحيل السوريين إلى بلدهم حيث الموت مؤكد على يد النظام أو تنظيمات متشددة. تحت خيام مهترئة، أو في العراء، يعيش نحو 74 ألف سوري. “فراشهم الأرض، وغطاؤهم السماء، بلا مرافق خدمية أو طبية”، كما يقول أبو محمود لـ”العربي الجديد”، مضيفاً: “نحرق أرواحنا بنار الانتظار الذي لا يقل فتكاً عن براميل نظام الأسد، وصواريخ الطيران الروسي الفراغية”.

بدأ مخيم الركبان يتشكّل قبل عام ونصف العام عندما حاول عدة آلاف من السوريين الهاربين من براميل طيران النظام السوري الدخول إلى الأردن، ولكن السلطات هناك حالت دون ذلك، فبدأوا بالتمركز في هذه البقعة، ولم يدر في خلدهم أن المكان سيتحول شيئاً فشيئاً إلى مخيم كبير يستقطب آلاف السوريين الهاربين من موت إلى موت، ومن مأساة إلى أخرى.

يقول مدير المكتب الإعلامي في المخيم، أبو جعفر الشامي، في اتصال مع “العربي الجديد”، إن سكان المخيم جاؤوا من مختلف المدن والبلدات السورية، مفصلاً بالقول: منهم 12 ألفاً و500 مدني من مدينة تدمر، شرق حمص، و11 ألفاً من مدينة القريتين، شرق حمص، و2000 من مدينة السخنة، بالقرب من تدمر، و4 آلاف من بلدة مهين، جنوب شرق حمص، و3 آلاف من مدينة القصير، جنوب غرب حمص، و3 آلاف من بلدة العقيربات، شرق حماة، و2500 من هوارين، شرق حمص، و2000 من ريف إدلب الجنوبي، و2500 من أرياف حلب، و4 آلاف من الرقة، و3 آلاف من دير الزور، و2000 من الضمير، شرق دمشق، و2000 من جيرود، في القلمون، وألف من بلدة الرحيبة، شرق دمشق، إضافة إلى عدة آلاف من مدن وبلدات سورية أخرى، خصوصاً من ريف حمص الشرقي، مشيراً إلى أن هناك حول المخيم نحو 15 ألفاً من البدو السوريين الرحّل الذين يمتهنون تربية الأغنام، ويعانون ما يعاني سكان المخيم من إهمال المنظمات الدولية.

ويتابع الشامي بالقول: يوجد في مخيم الركبان آلاف الأطفال، منهم أكثر من ستة آلاف أعمارهم أقل من عامين، و13 ألفاً أعمارهم بين العامين والعشرة أعوام، وهناك 500 طفل من دون راعٍ (يتامى)، إضافة إلى نحو 2500 شخص معاق، وسبعة آلاف شخص تجاوزوا سن الستين، وخمسة آلاف يعانون من أمراض مزمنة.

74 ألفاً من دون أطباء
يرسم مدير المركز الصحي في المخيم، شكري شهاب، صورة قاتمة عن الوضع الطبي والصحي، مشيراً إلى أن اليرقان وفقر الدم والإسهالات وأمراضاً أخرى بدأت تنهش أجساد سكان المخيم المنهكة بسبب عدم وجود مياه صحية أو غذاء كافٍ، لافتاً في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن نحو 80 في المائة من أطفال المخيم يعانون من الإسهالات الشديدة والحادة، و30 في المائة من الأطفال مصابون باليرقان، توفي 16 منهم، كما يعاني 10 في المائة من الكبار من هذا الوباء، محذراً من تفاقمه في حال لم تتدخل منظمات دولية. ويوضح شهاب أن 95 في المائة من النساء الحوامل يعانين من فقر الدم بسبب سوء التغذية الحاد، لافتاً إلى انتشار الالتهابات البولية لديهن بشكل كبير. ويناشد المنظمات الإنسانية في العالم بسرعة التحرك للتخفيف من معاناة آلاف النازحين الذين لا يجدون رعاية طبية، مشيراً إلى أن سكان المخيم بحاجة إلى الأدوية والأدوات الطبية، موضحاً أن المركز الصحي هو عبارة عن غرفة طينية أقيمت على عجل ويفتقر إلى أبسط المستلزمات الصحية. ويقول إن العاملين في المركز يلجأون إلى القماش لتضميد المصابين، مضيفاً: إن وجدت أدوية أو مستلزمات عن طريق المهربين فهي تباع بأسعار عالية، لا يملك أغلب سكان المخيم ثمنها، مشيراً إلى أن سعر كيس السيروم (المصل) يصل إلى ثلاثة آلاف ليرة، وهو يُعد مبلغاً كبيراً بالنسبة لسكان المخيم.
ويؤكد أنه لم يعد يوجد في المخيم إلا طبيب واحد، ولكنه لا يزاول المهنة، مشيراً إلى أنه كان هناك عدة أطباء في المخيم ولكنهم غادروه بسبب الظروف المعيشية الصعبة، مبيّناً أن 16 ممرضاً، بينهم قابلات قانونيات، يعملون متطوعين لتقديم ما يستطيعون للمرضى، ولديهم خبرات طبية قادرة على مواجهة الأمراض الداخلية والنسائية والحالات الطارئة في حال توفرت الإمكانيات، مناشداً الأطباء السوريين، خصوصاً الشباب منهم، التوجه إلى المخيم.

ويشير شهاب إلى أنه شاهد “عشرة أطفال حديثي الولادة يلفظون أنفاسهم الأخيرة بسبب عدم وجود أوكسجين منذ أيام، ولم أستطع فعل شيء لطفلة ولدت في الشهر الثامن سوى البكاء”، يقول شهاب، مضيفاً: “لو قتلوا هؤلاء الاطفال ببراميل الأسد أهون من أن نراهم يذوبون شيئاً فشيئاً أمام أعيننا، ونحن عاجزون عن فعل شيء”.

أطفال بلا تعليم
من جهته، يوضح المنسق العام للمخيم، أبو علي البادية، أن هناك منظمات إغاثية سورية بدأت في الآونة الأخيرة بتوجيه الاهتمام للمخيم، وهي بصدد القيام بعدة أعمال من شأنها تخفيف المعاناة عن قاطنيه، مشيراً إلى أن اتحاد المنظمات الإغاثية الطبية السورية (UOSSM) بدأ بإنشاء مستشفى يتضمن غرفة عمليات وأجهزة غسيل كلى، وينوي إرسال لقاحات للأطفال، وأرسل أخيراً شحنة أدوية من تركيا، معلناً أن منظمة الرعاية الطبية بدأت هي الأخرى في إنشاء مركز صحي وقامت بحفر بئر لسكان المخيم.

مأساة أطفال الركبان لا تتوقف عند الأمراض التي يعانون منها، بل تُظهر صور ومقاطع فيديو وصلت لـ”العربي الجديد”، أبعاداً مأساوية لا تقل وجعاً، خصوصاً لدى الذين فقدوا المعيل ولم يجدوا سبلاً أمامهم إلا التسول من سكان مخيم لا يجدون هم أنفسهم ما يعينهم، ويعانون من العوز والفقر. ومن هؤلاء الاطفال آلاء، القادمة من ريف تدمر، وهي فقدت أباها وأمها بقصف طيران نظام الأسد. تخرج آلاء كل صباح حافية القدمين كي تسأل سكان المخيم عن مأكل ومشرب لها ولإخوتها الصغار. يؤكد أبو جعفر الشامي أن عدداً كبيراً من أطفال المخيم يقضون يومهم في التسول أو جمع العلب البلاستيكية لبيعها ومساعدة أهاليهم. ولا يتلقى الأطفال في مخيم الركبان تعليماً حقيقياً، باستثناء جهود يقوم بها نحو 50 مدرساً ومدرّسة من أهل المخيم، شرعوا تطوعاً في محاولة تعليم الأطفال ضمن الإمكانيات المتاحة، إذ لا توجد بين أياديهم مناهج تعليمية إلا ما حمله بعض الأطفال معهم في رحلة النزوح إلى هذا المخيم.

ويشير أبو علي البادية إلى أن منظمة تحمل اسم “زنوبيا” أقامت “خيمة تعليمية” تستوعب 150 طالباً وطالبة، كما تقوم منظمة “نماء” حالياً بتشييد مدرسة تستوعب نحو 600 طالب وطالبة. ويعاني سكان المخيم أكثر ما يعانون من ندرة المياه، إذ لم تنجح جهود تبذلها منظمة اليونيسف في التخفيف من هذه المعاناة، فهي تقوم يومياً بضخ 200 برميل مياه من داخل الأراضي الأردنية إلى خزانات أقامتها داخل المخيم، كما تقوم منظمة “نماء” السورية بتوزيع 150 برميلاً يومياً، ولكن الكمية لا تكاد تكفي إلا عدداً محدوداً من سكان المخيم. ويقوم تجار من عدة مدن سورية، خصوصاً من دمشق والرقة، وفق مصادر في المخيم، بإيصال مواد غذائية إلى المخيم، ولكنها تباع بأسعار مرتفعة تفوق قدرة النازحين على الشراء، إذ يصل سعر ربطة الخبز إلى 700 ليرة سورية (ما يعادل دولاراً ونصف دولار أميركي)، فيما يصل سعر برميل مياه غير صالحة للشرب إلى ألف ليرة سورية (ما يعادل الدولارين).

وعلى الرغم من معاناة سكان المخيم جراء غياب كل أنواع الخدمات في بادية قاسية غير صالحة بالأصل للسكن حيث العواصف الرملية والغبار والحر صيفاً والبرد الشديد شتاء، إلا أن متاعبهم لا تكاد تنتهي، إذ تعمل السلطات الأردنية على إخلاء المخيم من ساكنيه ودفعهم أكثر إلى داخل الأراضي السورية، على الرغم مما ينطوي عليه هذا الإجراء من مخاطر على حياة آلاف النازحين.

ويوضح أبو جعفر الشامي أن اجتماعاً عُقد قبل أيام بين وجهاء من المخيم وضباط من الجيش الأردني لم يتمخض عن شيء، إذ لا تزال السلطات الأردنية تصر على إخلاء المخيم وإغلاق الحدود أمام المنظمات الدولية الراغبة في تقديم خدمات للنازحين. وكان تفجير انتحاري بسيارة ملغومة قتل عناصر من الجيش الأردني بالقرب من المخيم في العشرين من شهر يونيو/ حزيران الماضي، غيّر طريقة تعامل السلطات الأردنية، التي عاقبت سكان المخيم بإغلاق المنفذ الحدودي الذي تمر منه قوافل المساعدات وصهاريج المياه المقدمة من الأمم المتحدة. ولا تزال السلطات تعمل على إخلاء الركبان من ساكنيه “ما يعني أنهم فقدوا صفة اللجوء وباتوا عرضة للقصف من الطيران الروسي ومقاتلات نظام الأسد”، وفق المكتب الإعلامي في المخيم، الذي ناشد المنظمات الدولية التدخّل من “أجل إنقاذ 74 ألف مدني من موت محتم”.



صدى الشام