“العلوية الثقافية” في طور البارانويا


جيرون : مصطفى الولي

كم كنت أتمنى أن يتكفل بمهمة الكشف عن خطر “العلوية الثقافية”، كما أفصح عنها كاتب، له مكانته في الأعمال الدرامية السورية، كتاب من مثقفي الطائفة، الذين يقفون الى جانب ثورة الحرية، أو حتى أولئك الذين يرفضون تسميتهم بمؤيدين للنظام، ويكتفون بنقدهم المشوَشَ لمسار الثورة، الذي يحتاج إلى نقد واضح لا هوادة فيه بكل تأكيد. غير أني لم أقرأ أو أطالع ردودًا منهم في هذا المجال، ولعلي أجد بعض العذر لهم، فربما لم يقرؤوا ما جاء في صفحة “قمر الزمان علوش”، باسمه باللغة العربية، على صفحته في “الفيسبوك”.

لا تقوم أمنيتي هذه، على خلفية تقسيم الوظائف الفكرية والنقدية والثقافية، اعتمادًا على البيئة الوراثية لهذا الكاتب أو ذاك، لكن الواقع المرير الذي تجتازه سورية، والاستقطاب الذي يتداعى طائفيًا، يجعل قوة الرد على هذه الأفكار بعيدة عن التأويل المذهبي والطائفي، عندما يتصدى لمهمة -كهذه- أفراد ينتمون -وراثيًا- إلى الطائفة العلوية. وقس على ذلك كافة القضايا من هذا النوع، عند أي مكون اثني أو ديني أو مذهبي.

ثمة ثقافة انتشرت منذ بداية الثورة في سورية، تروِج أن ما حدث في سورية سنة 2011، هو استهداف للطائفة العلوية؛ للقضاء عليها، واجتثاثها، منكرين حقيقة أنها ثورة من أجل الحرية، ثورة ضد الاستبداد والطغيان. وتم وصْل هذه الفكرة باسترجاع لتاريخ مضى، وتحليل مجرياته بشكل قصير النظر، لإبراز الطائفة العلوية كضحية لأبناء جلدتها السوريين السنة؛ حين يستحضر مروجو تلك الثقافة وقائع “الظلم والاضطهاد” الذي وقع على العلويين، في عهد الامبراطورية العثمانية، متجاهلين أن ظلم العثمانيين “نال” من الأطياف السورية والعربية كافة، على امتداد زمن سيطرتهم على شعوب البلدان العربية. وتستكمل تلك الثقافة تدعيم رؤيتها الذاتية، باستحضار مرحلة السيطرة الإقطاعية، في السنوات اللاحقة للاستقلال، خلال الأربعينيات والخمسينات؛ فراحوا يحرفون الحقائق الاجتماعية الاقتصادية، ويحيلون ما جرى لقرى الساحل وجبال العلويين، إلى أسباب طائفية، وكأن أبناء سورية في الجزيرة وحوران وغوطة دمشق وأرياف حلب وحماة، المنتمين إلى فئة الفلاحين والمرابعين، كانوا بمنأى عن الاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي. زد على ذلك أن إقطاعيين من العلويين، كانوا يشاركون في ارتكاب ما ارتكبه إقطاعيو الأطياف المذهبية والإثنية الأخرى.

هذه الثقافة، يمكن أن تكون منتشرة شعبيًا في أوساط البسطاء؛ لافتقارهم إلى المنهج العلمي، وتأثرهم العفوي بالمفاهيم القاصرة، لكن أن تأتي بأقلام أو بأصوات مثقفين يفاخرون (بعلمانيتهم وديمقراطيتهم وماركسيتهم أو ليبراليتهم)، فـ “فيها إن”، كما يقال! أليس إبراز العلويين كضحية، تعاني تاريخيًّا من مظلومية تتميز بها عن بقية طيف السوريين، في لحظات تاريخية هبَ فيها السوريون لإنهاء مظلوميتهم تحت سلطة الطغيان والاستبداد، يشكل انحرافًا عن الحقيقة، وتزييفًا للواقع، وصبًا للماء على طواحين النظام الدموي، بوعي أو دون وعي؟ وهو النظام الذي أسس مقومات بقائه واستمرار سلطته المطلقة والأبدية على “ادعاء” تمثيله للعلويين، والذي مضى موغلًا في مزيد من الخداع، برفعه شعار “حماية الأقليات”.

هذا الترويج للمظلومية العلوية، يتكامل مع، أو يُنتج، نزعة التفوق والفرادة؛ ليحفر في الواقع أساسًا يعتقد أصحابه أنه من ضرورات “حماية الطائفة”، فهي وفق هذه الثقافة مظلومة، ورأسها مطلوب؛ لأنها متميزة ومتفوقة، وتمتلك المعرفة المطلقة، التي لم تتمكن المعارف الأخرى من الارتقاء إليها، في نظرية الوجود والخلق والتطور؛ تلك هي “البارانويا”.

تلك هي الثنائية البارانوِيَة، فكرة واهمة عن اضطهاد مزعوم، ومتواصل، سببه الرئيس العلياء والعظمة، وامتلاك الطاقة والقدرة التي عجز عنها الآخرون (أسرار الوجود وخفاياه)، والقدرة على حل الأسئلة الكبرى المطروحة على البشرية، وتصبح هذه العقدة، في تحولها الى وعي جمعي، مصدرًا للأصولية والعنصرية لدى الفئة المعنية بهذا الادِعاء.

كيف يمكن أن يتجرأ مثقف “حديث” افتراضًا، على تحمل مسؤولية الادعاء، وأمام باحثين غربيين، أنَ النظريتين الشاغلتين للبشرية “نظرية الخلق والتطور، لم يثبت العلم صحة أي منهما حتى الآن… ولن تجدوا حلًا لهما إلا في الرواية العلوية. (ويضيف) أنه على ثقة تامة من ذلك”!

على أرضية فكرية “إيمانية ” كهذه، يتجرأ الكاتب على الادعاء بأن شخصية ألمانية رفيعة المستوى تعترف له، أنها (الشخصية) قبل اللقاء معه ” كانت نصف علوية، وإذا بقيت شهرًا كاملًا في ألمانيا، سيتحول صاحبها إلى علوي بالكامل”. ومنه تكون الفلسفة الألمانية، بمدارسها المختلفة، وعلى امتداد تاريخها، عاجزة عن معرفة الحقيقة ومقاربة أسئلة البشرية، كما عرفتها وقاربتها الرواية العلوية المزعومة.

هذه الغلواء ” الثقافية” تضع كل المنتج البشري، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفات الحديثة، وبينهما كل الأديان، وصولًا إلى الفلسفة الألمانية، والنظريات المعرفية كافة، في مصاف أدنى من “الرواية العلوية”، التي لم يكملها بعد، الكاتب الذي أعلن عزمه على تقديمها. وفي هذا الادعاء، يكون واجب المجتمع الإنساني حماية الطائفة، وتدعيمها ومدها بكل مستلزمات التحول إلى حصن منيع؛ لأنها تشكل ثروة معرفية إنسانية!

لا يستطيع -كائنًا من كان- أن ينكر مساهمة المذاهب والأديان وكل العقائد؛ حتى الأساطير والملاحم التي دونها الأدب، بإضافات ملموسة لها -بهذه الدرجة أو تلك- لتاريخ الفكر البشري، معرفيًا وجماليًا وفولكلوريًا، وهو ما تعرفنا إليه الدراسات الميثيولوجية، والأدب المقارن، والعلوم المعرفية الخاصة بالأديان. أما احتكار المعرفة والادعاء بالإجابة عن أسئلة البشرية -كما لم يحدث من قبل- فهو شكل من احتكار سلطة المعرفة، وإغلاق الطريق على سيرورة الوعي الإنساني، بما يعادل نظرية نهاية التاريخ، على مستوى التنظيم الاقتصادي، الاجتماعي، والأخلاقي، الذي ادَعاه فوكوياما.

الخلاصة المفيدة هنا، حيث الكاتب ينطلق في فهمه لمجريات الصراع المحتدم في سورية، أنه استهداف للعلويين يهدد بقاءهم، ويقضي على أي مستقبل لهم، وليس ثورة شعب من أجل التحرر من الطغيان والاستبداد، هي أن بقاء نظام الاستبداد ضرورة؛ لمنع القضاء على العلويين أصحاب المظلومية التاريخية والراهنة، ولحماية مستقبل أبنائهم، ولا بأس ببعض الإصلاح، لكن أولا يجب تخليص سورية من “الإرهاب” الثورة!

تلك هي ثقافة الإنكار للحقيقة، والانفصال عن الواقع، وغالبًا ما تتداعى إلى أيديولوجيا مغلقة، رواجها وانتشارها في وسط اجتماعي محدد، يجعل كتلة بشرية واسعة غارقة في الأوهام؛ ما يحولها إلى خزان لشكل من العنصرية، يمد الاستبداد السياسي بالطاقة اللازمة لحماية وجوده، والتوغل في جرائمه، وحقه في استخدام شتى الوسائل، بذريعة الدفاع عن النفس “القلعة المحاصرة”، والمهددة؛ لأنها تمتلك التفوق والتميز عن الآخرين.




المصدر