حول مآلات اليسار العربي وعلمانيته


منير شحود

في جامعة القلمون الخاصة، منذ عشر سنوات، اجتمعت بزميل من أيام الدراسة الجامعية، وكان معروفًا بانتمائه النشط إلى حزب البعث. كانت المفاجأة هي أنّه استبدل بعثيته السابقة بالتشيع السياسي، ويقوم من وقتٍ لآخر بزيارة إيران، بدعوة من حكومتها.

ارتبط اليسار، تاريخيًا، بمفاهيم الدفاع عن الطبقات الاجتماعية الدنيا، وبالتقدم الاجتماعي، وبمناصرة حقوق المرأة، وغيرها. واجتذبت الأنظمة الشيوعية في القرن العشرين، على رأسها النظام الشمولي السوفياتي، قوى يسارية كثيرة إليها، على أمل أن تكون رافعةً لتحقيق الأهداف التي لطالما سعى اليساريون إليها، كالعدالة الاجتماعية والمساواة. بيد أنّ انغلاق هذه الأنظمة على نفسها وممارساتها المعادية للحرية، بما فيها تكريس حكم الحزب الواحد وأمينه العام، شوّه المفهوم التقدمي لليسار، ووسمه بالاستبداد.

كما ارتبط النهوض القومي اليساري العربي، وإقامة دولة “إسرائيل” في النصف الثاني من القرن العشرين، بالشعارات المعادية للغرب، بوصفه شرًا مطلقًا امبرياليًا، وتحوَّل العداء المشروع في السياسة إلى سياسة عداء مطلقة في خطاب النخبة. وحين وصلت الأنظمة القومية إلى الحكم، متسلِّقةً عواطف الجماهير، انقلبت على جمهورها، وصار هدفها الأساس تحويل أنظار رعاياها، بعيدًا عمّا يحدث في الداخل، من تثبيت الحكم، وكمّ الأفواه، والقبض “الأمني” على مؤسسات الدولة.

لم يختلف “اليسار” الذي وصل إلى الحكم عن اليسار الذي بقي خارج “نِعَم السلطة”، فكلاهما ينهل من المنبع ذاته. كما لم يتوقَّف من وصلوا إلى السلطة يومًا عن قمع معارضيهم من أخوة العقيدة، وغيرهم، بكل قسوة، فيما بقي التلويح بالفزّاعة الإسلامية السلاح الأمضى؛ لتخويف الجماهير من خطر فقدان مكتسباتها التنموية، على محدوديتها، أو بصورة أصح خطر الإسلاميين على بقاء الأنظمة السرمدية ذاتها، مع أنّ انغلاق أبواب السياسة هو ما سيحوِّل “الفزّاعة الإسلامية” إلى حقيقة مدمِّرة!

وفيما كان الإسلاميون يقدمون أنفسهم بديلًا لفشل السياسات القومية، أواخر القرن العشرين، بخاصة بعد انهيار الأنظمة الشيوعية، وصل تخبُّط اليسار إلى أوجه، بشقّيه: الشيوعي والقومي، وتراجع كثير من أفراده إلى انتماءاتهم القَبْلية، في حين اتّجه بعضهم الآخر صوب الليبرالية السياسية، أو التيارات الدينية، تعبيرًا عن هشاشة الانتماء، وبقي فريق ثالث على حاله، عصيًّا على التغيير، بعد أن تشبّث بعقيدته كدين.

وهكذا تحول مفهوم اليسار من رافعة للتقدم الاجتماعي إلى تيارات معزولة عن مجتمعاتها بدرجة كبيرة، لا بل أنّ بعض القوى اليسارية دافعت عن أنظمة الاستبداد، أو سكتت عنها، أما اليسار الذي ظلَّ يناهض السلطات، فكان فاقدًا -أيضًا- نفوذه في الأوساط الشعبية، وهدفًا لكلٍّ من الأنظمة الحاكمة والقوى الإسلامية.

قُبيل اندلاع أحداث “الربيع العربي”، ولئن وُجِد تباين إلى هذه الدرجة أو تلك، ومن بلد لآخر، فإنّ القواسم المشتركة تمثَّلت بغياب الحريات، وضعف أو انعدام المشاركة السياسية، وهجرة الكفاءات، والمؤشرات المنخفضة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، والميل إلى التقوقع في إطار التجمعات الأهلية ما قبل الوطنية، وحين فتحت الثورات الآفاق نحو الحرية، وتقدمت الشعوب للتعبير عن نفسها، ومع أنّ آلاف اليساريين شاركوا في الاحتجاجات أفرادًا، فقد فشلت القوى اليسارية، على العموم، في التقاط هذه اللحظة التاريخية الفريدة؛ من أجل استعادة المفهوم الإيجابي لليسار الملازم للتقدم، بكل ما يعنيه في مجالات الاقتصاد والسياسة والحريات، والقطع مع الأنظمة الشمولية وسياساتها.

مع ذلك، مازال بوسع الأحزاب اليسارية إعادة هيكلة بناها، واستعادة أنشطتها الاجتماعية؛ لتحقيق مصالح الفئات التي تمثلها من ضمن مصالح المجتمع ككل. هذا مرهون باعتمادها دينامية جديدة، تستند إلى التفاعلات السياسية والاجتماعية الخلاقة، التي تأخذ بالحسبان التحولات الحاصلة في بنية مجتمعات عصر التقدم التقني والرقمي. يمكن أن يتم ذلك من خلال دعم المبادرات الفردية، والعمل على مواقع وشبكات التواصل الاجتماعية التي تؤمن سرعة تبادل المعلومات والخبرات؛ ما يجعل الحزب، أي حزب، تحشيدًا مرنًا لمجموعة من الطاقات الحرة المتجددة، بعيدًا عن المركزية والأوامرية.

يساعد تجدُّد الدور اليساري في استعادة التوازن المطلوب في المجتمع، والوقوف في وجه قوى الاستغلال على اختلافها، والتعبير عن مصالح أوسع الفئات الشعبية، وحماية البيئة، ومنافسة القوى الدينية في هذا المضمار. كما تعدّ البرامج الاجتماعية الطموحة التي تشارك فيها القوى اليسارية باقي القوى الديمقراطية، كالنقابات والجمعيات وحركات المجتمع المدني، تعدّ مجالاتٍ رحبة للعمل الخدمي الذي يقود النجاح فيه؛ لتحقيق انجازات سياسية وانتخابية، تعزِّز من دور اليسار، وتعيد الثقة شبه المفقودة بسياساته.

من جهة ثانية، أساء ربط كثير من الأنظمة الدكتاتورية العربية بالعَلمانية إلى مفهوم العلمانية ذاته بصورة خطِرة. لم تكن هذه الأنظمة عَلمانية، وهي تبدو كذلك عند مقارنتها بالأنظمة الدينية -فحسب- التي تتدخل في تفاصيل الحياة الشخصية، كما لم تبنِ دولًا حيادية تجاه المجتمع، بل سوّغت حكمها بالدين، من دون أن ننسى الرغبة الأكيدة لقوى الإسلام السياسي في تشويه فكرة العَلَمانية، بوصفها نقيضًا لمشروعاتها الاستبدادية النكوصية.

إن إعادة الاعتبار للعَلمانية والتصدي للتشويه الذي تلاقيه على أيدي الاستبداديين، من إسلاميين وعلمانيين مزيَّفين وغيرهم، يعدُّ أيضًا مهمة ملحّة؛ فالعَلمانية هي الحاضنة الاجتماعية الحديثة لكل الأديان والمذاهب والإثنيات في مجتمع يقوم على حيادية مؤسسات الدولة ومساواة المواطنين أمام القانون، فضلًا عن التوجهات الإنسانية المتعلقة بالحريات الشخصية والعدالة والإبداع وحماية البيئة، وتحرير طاقات الرجال والنساء والمساواة بينهم.

مَن يُعارض العَلمانية، كمشروع جامع وحيادي، فإنّه يريد تمرير مشروعه الاستبدادي الخاص به؛ هذه هي حال الإسلاميين، الذين يتحججون بـ “ثقافة مجتمعنا” و”تعاليم ديننا” و”طبيعة شعبنا”، مستفيدين من انغلاق ثقافي وتجهيل اجتماعي مديد، والخلط، بمكر، بين فصل الدين عن مؤسسات الدولة وفصل الدين عن المجتمع!




المصدر