من قضاء السلطة إلى سلطة القضاء


حبيب عيسى

تلقيت اعتراضات كثيرة على الحديث عن المرحلة الانتقالية؛ فقد عدّه بعضهم تهربًا من معالجة القضايا الراهنة الملحة، وعدّه آخرون تهربًا من الغوص في مشاهد الدم والدمار وكوابيسها، وعدّه فريق ثالث تعبيرًا عن العجز في مواجهة كل أوباش هذا العالم، الذين ينتهكون حرمة الوطن والشعب، وعدّه فريق رابع حديث تعويضيًا عن الفشل في ترجمة المبادئ والأحلام إلى مسار تاريخي للخروج من المحنة فحسب، وعدّه فريق خامس حديثًا سابقًا لأوانه، وحديثًا في الوهم عن مرحلة انتقالية بعيدة المنال. لقد واجهني صديق، وأنا أكتب هذه الكلمات بأسئلة متلاحقة: عن أي مرحلة انتقالية تتحدث؟ ومتى؟ ومن قال لك أنها آتية؟ إن المواطن في سورية يعيش دقيقة فدقيقة؛ فكيف تريده أن يهتم بمرحلة انتقالية في الغامض من الأيام؟

نعم، لا بد من الاعتراف أن كل من هؤلاء الأصدقاء محق في جانب من الجوانب، لكن ليسمح لي الجميع بالإدلاء برأيي أيضًا؛ دعونا نعترف -بداية- أننا في سورية، وخلال السنوات الست المنصرمة وقعنا في أخطاء وخطايا، ساهمت في تعميق حجم المأساة التي نعيش، ولن أدخل في تفاصيل الأسباب والمسببين، دعونا نؤجل ذلك إلى ما بعد انقضاء المحنة، إذا امتد بنا العمر إلى ذلك الحين، سأقف -الآن- عند قضية مركزية في هذا السياق فحسب، وهي أننا، وبسبب تزاحم المشكلات وتنوعها في ظل غياب مؤسسة مركزية وطنية، توزع المهمات وتحدد الأطر والأساليب، وتضع الأمور في نصابها الصحيح، افتقدنا البوصلة التي تحدد لنا المسار الذي يؤدي بنا إلى الغائية المرجوة؛ فتضاربت المسارات وتناقضت، والمشكلة ليست كامنة في تعدد المسارات، بل إن تعددها مطلوب وضرورة، لكن فقدان البوصلة أدى إلى تضارب تلك المسارات، فعوضًا عن أن تكون مسارات متوازية على طريق واحد، تضاربت فيما بينها، وسدت الطريق إلى الهدف؛ فارتد بعضها وانحرف بعضها الآخر في مسارات تدمّر بعضها بعضًا، وعوضًا عن التشبيك بين تلك المسارات انجرفت جميعها للاشتباك في ما بينها.

المشكلة بدأت من خلل مركزي؛ فكل من اختار مسارًا معينًا، عدّ أن من يختار مسارًا آخر “شيطانًا” يستحق الرجم، وربما أكثر، وهكذا تصادمت المسارات، وعطلت بعضها بعضًا، فالذي اختار المسار المدني، اشتبك مع الذي اختار المسار السياسي، والذي اختار المسار السياسي اشتبك مع الذي اختار المسار العسكري، وهكذا أدى الاشتباك بين المسارات إلى ارتباك جميع المسارات.

من هنا، وباختصار شديد، نقول: إن الطريق إلى الحرية والمواطنة والمساواة والعدالة متعدد المسارات، وأن أي صدام بينها يقطع الطريق على الجميع، وأن تلك المسارات متوازية، والنضال قسمة، كل في مساره؛ فالسياسة والمدنية والتشريع والدستور والقانون وعناصر القوة المختلفة في المجتمع متكافلة متضامنة في ما بينها، تؤدي إلى صوغ المستقبل، فلا القوة تغني عن السياسة، ولا السياسة تغني عن القانون، وهكذا.

بناء عليه، وبمقتضاه كان هذا الحديث عن المرحلة الانتقالية، وسيستمر حتى إنضاج الفكرة، لكن هذا المسار لا يغني عن أي مسار آخر، بل لا يمكن الوصول إلى المرحلة الانتقالية إلا بتفعيل المسارات الأخرى كافة، وتأتي مشروعية هذا الحديث من ضرورة وقفة مع الذات، ودعوة للمراجعة؛ لأننا نفترض أن هذه المسارات، في حال وصلت إلى عتبات المرحلة الانتقالية، يجب أن يكون لديها أسس ومنطلقات وغايات وأساليب؛ للتعامل معها؛ حتى تؤدي تلك المرحلة الانتقالية إلى الغائية التي يتوخاها الجادون على تلك المسارات، وحتى لا تتمكن القوى السلبية، داخليًا وخارجيًا، من الانحراف بالمرحلة الانتقالية إلى مطبات جديدة، تدخلنا في “حيص بيص” من جديد، وليكن لنا في ما حصل بتونس ومصر، وما يحصل في ليبيا والعراق واليمن درسًا؛ حيث أدى العبث بالمرحلة الانتقالية إلى الارتداد عن الربيع العربي، والانزلاق إلى الأسوأ.

في سورية للمرحلة الانتقالية خاصية مأسوية؛ ذلك أنها ستأتي بعد جراح عميقة، وهي تتعمق مع كل دقيقة تمر؛ أدت إلى إصابات خطِرة نالت من النسيج الاجتماعي حتى الجذور، وبالتالي؛ فإن المرحلة الانتقالية -هنا- ذات طابع إسعافي في الأساس، والمؤسسة المركزية لإجراء الإسعافات الأولية هي مؤسسة القضاء، ذلك أن ألف باء نجاح المرحلة الانتقالية، يبدأ بحصر السلاح بيد قوتين حصرًا مطلقًا:

القوة الأولى: هي الجيش الذي يجب أن يتجه سلاحه لحماية الحدود والسيادة الوطنية واسترجاع المحتل من أرض الوطن، وهيكلته بما يحقق ذلك.

القوة الثانية: هي القوة الشرطية والأمنية كضابطة عدلية، وهيكلتها بما يحقق ذلك.

تحقيق ذلك يبدأ بجمع السلاح، وجمع السلاح بعد كل هذا الذي حصل، لا يمكن تحقيقه إلا بقيام مؤسسة قضائية ذات صدقية، ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يكف عن السعي لاستيفاء حقه بيده وبسلاحه، إلا إذا نهضت مؤسسة للعدالة موثوقة، ذات صدقية، تتكفل بالمحافظة على حقوق كل مواطن، أو تعيدها إليه إذا كانت تعرضت للعدوان.

من هنا؛ لابد أن ينص الإعلان الدستوري، والذي يشكل المرجعية الدستورية للمرحلة الانتقالية، على استقلالية القضاء استقلالًا تامًا عن السلطتين: التنفيذية والتشريعية، فمن أين تكون البداية؟

لقد استقر مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، كمبدأ أساسي أعطى للسلطة القضائية صلاحيات شاملة لا يمكن للقضاء القيام بها، إلا إذا تمتع بالاستقلال التام، من جهة، وتمتع بسلطات شاملة، في الوقت ذاته؛ بحيث لا توجد سلطة ولا جماعة ولا أفراد في المجتمع فوق القانون، وبالتالي؛ لا أحد، أيًا كان بالمطلق، فوق المساءلة القضائية، كما لا توجد سلطة أو جماعة أو فرد خارج على السلطة القضائية، أو عن سلطتها، فمجرد ظهور أي قوة أو سلطة في المجتمع، تتمرد على أحكام القضاء، أو تتدخل في سير العدالة، أو لا تخضع لأحكام القضاء، أو لا ينصفها القضاء في إحقاق حقوقها، فإن هذا يعني أننا لم نعد أمام جهاز قضائي، بل لم نعد أمام دولة، بالمعنى القانوني، وإنما أصبحنا بمواجهة أداة جديدة للجريمة بحق المجتمع أسقطت الدولة بيد المجرمين، أو بيد المجرم الذي يستخدم جميع الأدوات والوسائل في جريمته بعد أن أضاف إليها القضاء، لا أكثر من ذلك ولا أقل، وبالتالي؛ ليس من المبالغة القول بأن القضاء هو الحصن الأخير للدولة الحديثة، تنهار بانهياره.

إذا كنا نتحدث -هنا- عن المبدأ التأسيسي للدولة الحديثة، المتعلق بالمساواة أمام القانون والعدالة وإحقاق الحقوق الأساسية للإنسان، فإن هذا المبدأ كان في الغالب نظريًا، وقد تم تطبيقه نسبيًا، بدرجات أكثر أو أقل من دولة إلى أخرى، في الدول التي تسمى الآن متقدمة ديموقراطيًا، بينما انتُهك -بفظاعة ووحشية ودون رحمة- في ما يسمى بالعالم الثالث، عن طريق أنظمة استبدادية حالت دون قيام سلطة قضائية عادلة، أو سعت إلى انهيار الموجود من المؤسسات القضائية، فانهارت معها أركان الدولة؛ ما أدى إلى مراحل انتقالية قد تطول أو تقصر، وقد تكون مؤلمة ومأسوية في أغلب الأحيان؛ للتأسيس للدولة وأركانها على أسس جديدة.

لقد تسلل إلى الدولة الحديثة كثير من المفاهيم الامبراطورية عند بعضهم، والتي تشرّع للمساواة داخل حدود الدولة المعنية، لكنها تشرّع للعدوان خارج حدودها، بمسميات عنصرية عديدة، منها مصالح الدولة، أو أمنها القومي، وكأن مصالحها وأمنها القومي لا يتحقق إلا بانتهاك المصالح والأمن القومي للشعوب الأخرى، كتشريع الاستعمار والاحتلال والوصاية والتدخل المباشر في شؤون الدول الأخرى، ونهب ثرواتها، والاعتداء على حقوق الإنسان، ودعم الأنظمة الاستبدادية فيها،  أو على العكس من ذلك، تسللت إلى دول أخرى المفاهيم القبلية والعنصرية والطائفية والدينية المتطرفة، التي تشرع التفاوت داخل الدولة ذاتها، امتيازًا لبعضهم، أو تهميشًا لبعضهم الآخر؛ فتهدد النسيج الاجتماعي، وتمهّد لانهيار الدولة من الداخل، كما أن بعض الدول الحديثة تعرضت لعدوان سافر من طغاة، أو عصابات، أو غزاة، على مؤسسات السلطة والمجتمع؛ فطوعتها لطغيانها، بما في ذلك القضاء، وسدت الطريق باتجاه التطور إلى دولة المواطنة والحرية والمساواة.

هكذا؛ فإن الحديث عن إصلاح القضاء في مجتمع ما، لا يتعلق بإصلاح الجهاز القضائي، وحسب، ذلك أن القضاء هو خط الدفاع الأخير عن المجتمع، فعندما يصل الخلل إلى القضاء في دولة ما، فإن هذا يعني أن مؤسسات المجتمع ومؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية قد أصابها عوار خطِر، وبالتالي؛ فإن إصلاح القضاء لا يمكن أن يتم إلا وفق منظومة إصلاح شاملة لمؤسسات المجتمع والسلطة معًا.

استنادًا إلى ما سبق؛ فإن مصطلح “إصلاح القضاء” قد يبدو قاصرًا في التعبير عن أزمة القضاء في سورية، فالقضاء عندما يتعرض لانتهاك استقلاليته وتطويعه ليكون سوطًا، وربما أبعد من ذلك، بيد السلطة التنفيذية وأجهزتها، يكون جزءًا من المشكلة في سورية، يساهم في تفاقمها وليس في حلها، عبر استخدامه؛ لتغطية ممارسات جرمية لا تمت إلى العدالة بصلة، بل تشكل عدوانًا صارخًا عليها.

لهذا؛ فإن “إصلاح القضاء في سورية” يبدأ بالتأسيس الشامل، دستوريًا وتشريعيًا، لقضاء مغاير تمامًا على أسس عصرية، وينتهي بالتأسيس لهيكلية القضاء، بناء على تلك الأسس الدستورية العصرية، وبعد هذا، وليس قبله، يبدأ القضاء بالعطاء وتحقيق العدالة وتحصين المجتمع والسلطات من الوقوع في الخلل مرة أخرى، بعد أن يساهم في إزالة آثار الخلل الذي كان، من إعادة الحقوق إلى أصحابها، وجبر الضرر والتعويض والمصالحة، وإعادة الحسبان لقوة القانون، وطي صفحة قانون القوة.

إن هذا يعني -بدقة- أن جميع الدراسات والأبحاث التي تحدثت عن العدالة الانتقالية والمصالحة والمساءلة في سورية، والتي تعتمد أساسًا على وجود سلطة قضائية قادرة على تحقيق العدالة والمساءلة ابتداء، كان يجب أن يكون أول أولوياتها إنشاء هذه المؤسسات القضائية على أسس جديدة كليًا،  وبالتالي؛ فإن حصر الحديث في هيكلة المؤسسات القضائية القائمة لم يعد كافيًا، كما لا بد من إحداث مؤسسات مدنية اجتماعية حقوقية للمواطنة مع بداية المرحلة الانتقالية، تعمل على وضع حد للإضرار بالمجتمع والأفراد والمرافق العامة والممتلكات والمؤسسات، وتعمل على المصالحة والمحاسبة، تسد الفراغ، وتكون عوناً للقضاء قيد التأسيس، وتعمل على معالجة قضايا ومشكلات تتعلق بالعدالة الانتقالية لا تحتمل الانتظار.

لكن قبل ذلك، دعونا نبحث في أسس بناء مؤسسات قضاء عادل، وفي الوثائق الدولية والدستورية التي يجب اعتمادها، مع البحث في واقع القضاء في سورية، وكيف تدرج تاريخيًا إلى الحالة التي وصل إليها.




المصدر