اقتتال “أخوة المنهج”


ماجد كيالي

تثير الاشتباكات الدامية، التي نشبت بين فصيل “جند الأقصى” و”حركة أحرار الشام”، والتي اندلعت؛ بسبب اتهامات بأعمال خطف وقتل متبادلة، ذهب ضحيتها العشرات، وتبعها انضمام الأول إلى جبهة “فتح الشام” (“النصرة” سابقًا). مشكلة جماعات المعارضة العسكرية التي تتغطّى بالإسلام في الثورة السورية، ولا سيما أن هذه الاشتباكات حصلت في ريفي حماه وادلب في أحوال الحرب المدمرة على حلب.

وفي الحقيقة، فإن هذه الجماعات كانت بمنزلة “انشقاق” -بمعنى ما- عن ثورة السوريين، منذ البدايات، وهذا يشمل “جيش الإسلام” و”أحرار الشام” و”صقور الشام” وأخواتهم، لكنه لا يشمل جبهة “فتح الشام” (“النصرة” سابقًا) بحسبان أن هذه كانت منذ البداية بمنطلقاتها ومرجعيتها وأجندتها مختلفة عن الثورة السورية، ولا سيما مع انتمائها إلى تنظيم “القاعدة”؛ الأمر الذي ينطبق على “داعش” أيضًا، بل إن هاتين الجبهتين يمكن عدّهما بمنزلة حالة من ثورة مضادة في طبيعة توجهاتهما ومقاصدهما، وفي سياساتهما وممارساتهما.

القصد أن هذه الجماعات شكّلت انشقاقًا يصدر عن رؤية، مفادها: أن الثورة السورية ذات طابع وطني ديمقراطي، كونها تتوخّى استعادة حقوق مختلف مكوّنات السوريين، بمختلف انتماءاتهم الطبقية والدينية والمذهبية والإثنية والمناطقية، بوصفها ثورة لإنهاء الاستبداد، وإقامة دولة مدنية وديمقراطية لمواطنين متساوين وأحرار؛ إذ كان يمكن لمختلف القوى باختلاف مرجعياتها أن تتوحّد حول هذا الإجماع المشترك، بدليل أن “الإخوان المسلمين” ضمّنوها في وثيقتهم “العهد والميثاق” (آذار/ مارس 2012)، هذا أولًا. ثانيًا، لم تذهب الثورة في هذه الاتجاهات الانشقاقية في السياسة والمجتمع، والتي تفضي إلى الطائفية والتديّن (والعنف)، لولا توافر عوامل خارجية مشجّعة وداعمة، تقف وراءها قوى دولية وإقليمية وعربية، تتقصّد قولبة الثورة على هذا النحو، للتحكم بها؛ إذ إن التحول في هذا الاتجاه حصل منذ البدايات، على الرغم من تأكيدنا أن النظام لعب دورًا كبيرًا في استدراج الثورة إلى هذه المربعات (التطييف والتديين والعنف). ثالثًا، هذه التحولات “الانشقاقية” لم تحصل بنتيجة تطور طبيعي في مسارات الثورة، أي: أنها لم تأت نتيجة حراك ومجادلات فكرية أو نظرية أو سياسية في المجتمع السوري، أو في القوى التي تصدرت الثورة السورية، وضمنها القوى المحسوبة على الإسلام السياسي، وإنما ظهرت فجأة، علمًا أن التدين في مجتمع السوريين هو من النوع المعتدل، والوسطي، وأن أصحاب النزعة السلفية العنفية، أو “الجهادية”، كانوا محدودين ومنعزلين في هذا المجتمع.

على أي حال، ليست المشكلة مع هذه الاتجاهات في طبيعة انتماءاتها الفكرية، فهذا جزء من الحق بالحرية، لكن المشكلة معها في أنها شكلت ظاهرة انشقاقية، بأخذها الصراع نحو التطييف والتديين، علمًا أنه صراع على الحقوق والمصالح السياسية. من جهة أخرى فإن قيام هذه الجماعات أتى على حساب “الجيش الحر”، بل إنها اشتغلت، مع قوى خارجية، على إزاحة هذا الجيش من المشهد وتحجيمه وتهميشه نهائيًا، وأنها حصرت الصراع مع النظام في البعد العسكري، ووفق طريقة معينة، تعتمد السيطرة على مناطق محررة في حين أنها -في الحقيقة- تصبح مناطق محاصرة، وبمنزلة حقل رماية لمدفعية النظام وبراميله المتفجرة. فوق كل ذلك، فإن تجربة هذه الجماعات في إدارة المناطق الخاضعة لسلطتها لم تكن موفقة؛ إذ كانت إقصائية وأحادية، بل وتعسفية وعنفي -في بعض الأحوال- في تعاملها مع المجتمعات المحلية التي تسيطر عليها، بحيث باتت هذه المجتمعات تعاني الأمرين من حصار النظام وقصفه، ومن هيمنة هذه الجماعات، التي لم تنجح في فرض نفسها بديلا عن النظام، ولا في توفير إدارة ملائمة في مناطق سيطرتها، تخفف عن الناس معاناتهم.

فوق كل ذلك، فإن مشكلة هذه الجماعات اشتغال كل واحدة منها على الاستئثار بالمشهد، واحتكار السلطة حيث توجد، هذا حصل مع “جيش الإسلام” الذي تقاتل مع كل القوى؛ لفرض سيطرته على الغوطة الشرقية من دمشق، وحصل في حلب وإدلب ودرعا، بحيث باتت المنافسات والمنازعات الداخلية تستنزف هذه القوى، وتشغلها عن الصراع ضد النظام، فضلًا عن أنها تفاقم من معاناة ومأساة السوريين، وتقوّض صدقية ثورتهم؛ وطبعًا يأتي ضمن ذلك اقتتال هذه الجماعات المستديم، مع جبهة “النصرة”، ومع “داعش”.

هكذا استنزفت جماعات المعارضة الإسلامية جزءًا كبيرًا من طاقتها وقواها في حملات الاقتتال في ما بينها، بل إنها فقدت عددًا من قياداتها؛ نتيجة عمليات الاغتيال التي حصلت، ويشمل ذلك عمليات الاغتيال التي طاولت قادة من “الجيش الحر” والناشطين السلميين من بعض هذه الجماعات التي حاولت تصدر المشهد. ضمن ذلك، مثلًا، تأتي عملية اغتيال القائد في الجيش الحر في حلب “أبو فرات” (2012)، وعبد القادر صالح، قائد لواء التوحيد (2013)، وحسان عبود قائد “حركة أحرار الشام” (اغتيل في 2014 في انفجار مع عدد كبير من قادة حركته)، وأخيرًا اغتيل القائد العسكري لأحرار الشام في منطقة الغاب والساحل “أبو منير الدبوس” (على يد جند الأقصى).

لاشيء يفسّر هذا الاستنزاف، المتمثل بالاقتتال والاغتيالات بين من يعدّون أنفسهم “أخوة المنهج”، إزاء غيرهم، إلا الصراعات على السلطة والمكانة والموارد، التي تغلف بمصطلحات إسلامية ذات مضامين سياسية، تتحول بدورها؛ لتصبح بمنزلة عقيدة، وهذا يشمل مصطلحات: الحاكمية والجاهلية والفرقة الناجية والجهاد وتحكيم الشرع والحدود، التي تتأسس على تكفير الغير، وادعاء احتكار الوصاية على الإسلام والمسلمين، والوكالة عن الله. واللافت أن هذه ذاتها منطلقات “القاعدة” و”داعش”، وهي تشمل الدفاعات التي يتغطى بها الإسلام السياسي الشيعي كحزب الله في لبنان والعراق وأنصار الله في اليمن، وجماعات: فاطميون والنجباء وأبو الفضل العباس في العراق، والذين يقاتلون دفاعا عن النظام في سورية، كذراع لنظام الولي الفقيه، والتي تدعي بدورها أنها تمثل الإسلام الصحيح، وتقاتل ضد التكفيريين.

قصارى القول إن المشكلة بين هذه الجماعات تبدو في الشكل وليس في النوع، مادامت تعتمد فرض رؤاها على مجتمعاتها بالإكراه والعنف، ومادامت تعتقد أنها ولية الله على الأرض، وما دامت تستغل الدين في الصراعات على السياسة والمكانة والموارد. المشكلة أيضًا أن هذه الجماعات ترسخ الانشقاقات في مجتمعاتها، وأنها تسهل على الأنظمة الاستبدادية، وفوق كل ذلك، فهي تقوض شرعية التيارات الإسلامية المعتدلة، إضافة إلى إضرارها بالدين ذاته.




المصدر