on
الديمقراطية حلم لم يتحقق
نداء الدندشي
انقسم العالم خلال القرن العشرين إلى معسكرين متباينين في الأيديولوجيا، وفي أسلوب كل منهما بتطبيق نظام حكمه الخاص، وكان المعسكر الاشتراكي واعدًا في بدايته، وله مُرِيدوه في أرجاء العالم، لتسويقه مبدأ المساواة بين أبناء الشعب، وإلغاء الفروقات الطبقية التي عانى منها كثيرون.
لاحقًا، عرف الجميع أن مبدأ المساواة الذي روّج له، واقتصر على حصص الأجور، وهي مساواة غير عادلة، حين يؤخذ الجهد الذي يُبذل في أثناء العمل بعين الاعتبار، فضلًا عن حالات الإبداع التي لم تراعى كما يجب، وجرى تهميش أصحابها عن عمد، وكان من نتائج التطبيق المغلوط لفكرة العدالة، نمو طبقة من أمراء السلطة.
لم يمض وقت طويل حتى انبعثت رائحة فساد هذا الأنموذج من النظام العالمي، فقد عمد كثير من القيُّمين عليه إلى استباحة أموال الدولة ومؤسساتها، وطارت أنباء تغلغل الفساد الذي استشرى في مختلف طبقات الشعب وصولًا إلى رموز الحكم ذاته، ولعب الأسلوب الجائر الذي مارسه هذا النظام في توجيه الرأي العام ودفعه دفعًا إلى تأييد كل ممارساته، والطريقة التي اتبعها في القضاء على معارضيه، فضلًا عن قمع الحريات العامة والتصدي بقوة للمفكرين الذين إما اعتُقلوا أو دُفعوا للفرار خارج أوطانهم، لعب دوره في انقلاب الرأي العام عليه.
ساعدت أخطاء الاشتراكيين الفادحة الدول التي طبّقت النظام الرأسمالي، وتبنت مبدأ العمل على رفاهية الشعب للترويج لأنفسهم على أنهم الأنموذج الأفضل الذي يجب أن يسود العالم، وكان للدول الغنية الفضل الأكبر في تقديم هذا الأنموذج، بوصفها اعتمدت مبدأ الانتخابات العامة التي أتاحت لمواطنيها المشاركة في السلطة عن طريق اختيار ممثلين فعليين لهم، ينتخبونهم بأنفسهم، وكان لتحديد فترة حكم الرئيس أو رئيس الوزراء، والتي لا يتم تجاوزها إلا بانتخابات برلمانية أو عامة، مفعول السحر في جذب المؤيدين في أرجاء العالم لهذا النظام.
بالمقابل، حصلت تجاوزات كثيرة ضمن السياق التاريخي، لعبت دورًا محوريًا في توجيه الرأي العام في العالم الرأسمالي، كتعمّد الأحزاب الصغيرة إلى التكتل والاتحاد مع بعضها، وتأسيس حزب واحد، أو تكتّل واحد، يضم عددًا كبيرًا من الأعضاء، أي عدد أكبر من الأصوات الانتخابية، ودفعت إلى حصر رأي أكبر عدد من الناخبين ضمن توجهاتها الانتخابية، حتى لو لم يكن بعضهم مؤيدًا لمواقفها، فشاعت في كثير من الدول ظاهرة الحزبين الكبيرين المتصارعين على السلطة، وإن بقي الباب مفتوحًا للأحزاب الصغيرة للعمل بمفردها، لكن من دون أن تحظى بفرصة تولي سدة الحكم، مع ترك الباب أمامها مواربًا للعمل على بناء نفسها، وزيادة عدد ممثليها في البرلمان، وبمقارنة ذلك مع النظم التي تتيح للرئيس أن يحكم حتى مماته، مع منحه صلاحيات واسعة تجعله قادرًا على التحكم حتى بمصائر المواطنين، وتدخّل أجهزته القمعية بتفاصيل حياتهم، وصولًا إلى مرحلة التخوين وانتهاك انتمائهم الوطني، بدا النموذج الرأسمالي هو الخيار الأفضل، ما قاده -في النهاية- لتوظيف مصطلح “الديمقراطية” لمصلحته.
ربما لم يصل كثير من الدول التي تتبنى مبدأ الديمقراطية في كثير من مراحلها إلى المرتبة النبيلة، فالأخطاء التي ارتُكبت في أثناء تطبيق النظم والقوانين الضريبية، أصابت المواطن العادي بالإحباط، علاوةً على التلكؤ المقصود أحيانًا في تنفيذ الأحكام الخاصة بالتهرب الضريبي، أو تأسيس الشركات الوهمية؛ ما دفع مواطنين كثرُا للشكوى من أنهم لا يتلقّون خدمات جيدة توازي ما يدفعونه من ضرائب، وهنا يمكن الفهم بأن الإشارة تتجه نحو أصحاب الشركات الكبرى التي تُقدّم نهاية كل عام جداول أرباحها، مذيلة بأرقام تكون غالبًا صادمة.
إلى جانب هذا، شاعت في كثير من الدول النامية ظاهرة الحكومات العسكرية، التي تمكّنت من الوصول إلى السلطة عبر انقلابات يقودها كبار الضباط العاملين في سلك الجيش، ونجح هؤلاء في تولي زمام أمور الحكم في بلادهم، سواء لسنوات قليلة، أم لعقود من الزمن، وللحصول على تأييد المواطنين لهم، قاموا بالترويج لفكرة فرض الأمان؛ من أجل مصلحة المواطن الذي دفع حياته في حالات كثيرة ثمنًا لهذا الادعاء، ويسبق هذا العمل تخوين الحكومة السابقة التي أطاحت بها، وغالبًا إعدام رئيسها أو اعتقاله وزجه في السجون أو نفيه.
يتلقى العسكريون عادة في كل دول العالم تدريبات صارمة، ويتم توجيههم إلى عدم الرأفة بأعدائهم، كونهم يتولون مهمة حماية الوطن، حتى تلتصق هذه التربية بحياتهم، في كثير من الحالات يمتد تأثيرها وصولًا إلى علاقتهم بعائلاتهم، وحين ينجحون بالاستيلاء على مقاليد الحكم في بلد ما يتحول الشعب إلى ما يشبه العدو بنظرهم، هنا يصبح التصدي لمحاولات اعتراض بعض الجسورين على سلوكهم العسكري، وطريقة أدائهم السلطوية، يتطلب الدفاع بشراسة عن مواقعهم التي وصلوا إليها، ويأخذ تصديهم للمعترضين شكل الإبادة، يكون للأحكام العرفية دورها التراجيدي فيه، حيث لا مجال للمحاكم المدنية كي تأخذ دورها بالكامل، وهي على الأرجح لا تعطى الفرصة لتلعب دورها الحقيقي نظرًا للفترة الطويلة التي تحتاجها قبل إصدار أحكامها، وان سُمح لها بهذا فيتم ربط الأمر بسلسلة من القرارات الصارمة التي تنزع عنها صفة الحيادية. تعمد السلطة العسكرية -أيضًا- إلى تحييد جهاز الشرطة المدنية، وكثيرًا ما استُبدل قادة هذا الجهاز بضباط من العسكر، ما أدى لنزع الصفة المدنية عن أداء هذا الجهاز الحيوي، الأمر الذي يفاقم الأمور، ويضاعف معاناة المواطنين في ظل غياب متعمد لجهاز القضاء الذي يوضع تحت السيطرة. بالنتيجة، لقد فشل هذا النظام فشلًا ذريعًا، وساءت سمعته في أرجاء العالم كنتيجة طبيعية لممارساته في أثناء توليه الحكم، فاستُبدل في كثير من الدول (أميركا اللاتينية) بنظام مدني يعتمد الانتخابات العامة، بعد أن أثبتت التجارب نجاح الدول التي اعتمدت نظام الانتخابات الحرة -وان كان بشكل نسبي- في أداء مهماتها أكثر من غيرها، بينما ظهرت الحكومات العسكرية كشيء قادم من عصور الظلام.
حتى الآن لم ينجح العالم في تطبيق المثل العليا التي ينادي بها، وما زالت الأفكار الخلاقة حبيسة أدراج الفلاسفة والمنظرين، وبكلمة أخيرة تعثرت الديمقراطية في تلبية التطلعات الإنسانية، لكنها تبقى مطلبًا نبيلًا لدى الشعوب كافة، وتستمر في الاحتفاظ بمركزها نظامًا يستحق العناء.
المصدر