خبايا العولمة


آرام كرابيت

الرأسمالية في تمرحلها الأخير عولمة، والعولمة نتيجة التحولات الهائلة التي أفرزتها الرأسمالية، وأدت إلى هذه المحصّلة، بمعنى أنها محصلة للتصعيد الكبير في الجوانب السياسية والاقتصادية، وللآليات السريعة لانتقال رؤوس الأموال والسلع والبشر.

إن البحث المحموم للشركات الاحتكارية عن مصادر الطاقة والعمالة الرخيصة، وانتقالها من موضوع إلى أخر، وهيمنتها، بله سيطرتها على الدول والحكومات في بلدان مركز القرار العالمي؛ أدى إلى زعزعة الكيانات الوطنية الراسخة في البلدان المركزية، دولًا ومجتمعات، ربما نتائجها لم تظهر للعيان بوضوح إلى الآن، بيد أنها واضحة لمن يتابع ويراقب تطورات الوضع الاقتصادي – السياسي -الاجتماعي في العالم كله.

إن التحولات الخطِرة التي أفرزتها، وما زالت تفزرها الرأسمالية في كل حقبة، تكشف عن قدرتها على امتصاص أزماتها وفتح أزمات أخرى؛ بمعنى أنها تعمل على تدوير الأزمة ودفعها؛ لتكبر ككرة الثلج، ومن هنا تُبنى كتل سلعية متطورة، وتشيّئ وتدمر كينونة الإنسان الذي لا يستطيع حماية نفسه من التهميش والفقر من طرف أخر.

مع كل تطور لها تنزل قطاعات جديدة كبيرة إلى الشارع؛ نتيجة تمركز السلعة وتكثيف القيمة المضافة فيها؛ ما يؤدي إلى خسارة كثير من العمال العاديين ونصف المهنيين إلى الشارع.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نرى بوضوح انكشاف الرأسمالية في مرحلة العولمة على حقيقتها، الحقيقة الساطعة، عن توحشها وتحويل العالم -كله- ميدانًا لحاجاتها؛ فهي لم تعد تتقيد بحدود أو قانون أو قيمة للدولة والمجتمع والطبيعة، وتفسح المجال لتحكمها بالعالم؛ لتمسك النخبة الهرمية على مفاصل المال والثروة، وتفرّغ الحمولات السياسية والأزمات الاقتصادية النابعة من تكوينها في البلدان الهشة والضعيفة، عبر خلخلة هذه البلدان بالتدخل المباشر فيها، كالحروب المصطنعة، وتجييرها لمصلحة احتكارات السلاح والنخبة المالية والسلطة.

إنها تكنس في طريقها كل الإرث الثقافي والحضاري والإنساني، وما راكمه من قيم ومعارف وأخلاق وجمال؛ ففي تمركز وتركز وسائل الإنتاج والنقد -على الصعيد العالمي- بيد نخبة هرمية محدودة العدد، لن يسمح بعد اليوم بالاستقرار والبناء في أي منطقة من العالم، وخاصة البلدان الصغيرة التي ستكون أول من يضيع في هذا الفيضان الجارف الذي يأخذ في طريقه الدول والمجتمعات، ويؤدي إلى التذري والتمزق، ولن يتوقف إلا إذا كان هناك نزوع اجتماعي مقاوم على الصعيد العالمي؛ لإيقاف هذا التدهور، وستذهب شعوب كاملة إلى الدمار، وستأخذ معها تراكمها الثقافي ولغاتها وحيوات الناس ومصائرهم. بمعنى، إذا لم تتشكل قوى فاعلة في وجه هذه العولمة القاضمة للمصائر، ستكون هناك إبادات بشرية منظمة، للشعوب وتاريخها، على شاكلة التي حدثت للهنود الحمر والأرمن الذين جرى حرق أرثهم وتاريخهم ووجودهم، كدور العبادة واللغة والبيوت والآثار والتماثيل وما راكموه من معارف.

ففي العمليات المنظمة للنهب المنظم، والبحث عن مصادر الطاقة، سيؤدي بنا إلى هذا المآل. ستعمل الولايات المتحدة كسيدة نظام العولمة، والمنظمة والموزعة للمهمات على بقية الدول؛ للإبقاء على نفوذها العالمي بكل الوسائل، وسيكون الصراع شديدًا في ظل التنافس الشديد على السوق ومصادر الطاقة، وخشية الولايات المتحدة من الانحدار الحضاري إذا ما جرت تسويات بين آسيا وأوروبا وأفريقيا في مواجهتها، سياسيًا واقتصاديًا، إن اشتدت الأزمة.

في السابق كانت دول كبيرة تتصارع وجهًا لوجه، جيوش وأسلحة؛ كانت المعارك تخاض على الجبهات من أجل الثروة والمال والمكانة والنفوذ، ومن أجل السيطرة على الموارد والشعوب، أما اليوم، وبعد أن جرى نوع من التعاون بين الدول، وتغير شكل الحروب والقتال؛ أضحت التصفيات السياسية والتعاون السياسي يحدث في داخل البلدان الهشة، وعلى حساب مصائر الشعوب المهمشة، كسورية وليبيا واليمن والعراق… بتغذية هذا الصراع ليبقى مستمرًا، عبر حقنه بتوترات عرقية وقومية ودينية وطائفية، أو تتم تصفية حسابات سياسية واقتصادية بين الدول الكبيرة بالنيابة؛ بمعنى أن الحرب بالنيابة مفتاح لفك الانسداد السياسي الدولي القائم اليوم، واستمرار لما حدث في الحرب العالمية الأولى والثانية؛ من أجل إعادة إنتاج واقع اقتصادي – سياسي جديد، ومحاولة عمل ترتيبات جيو سياسية للقوى المتصارعة لمدة زمنية، تكون مقدمة لتأمين موارد ومكانة لكل طرف؛ لتحقيق رواج طويل، تتحرك فيه السلعة والتجارة والناس ويضحي ضخ المال أكثر في مفاصل الاقتصاد وتعمير ما خربته الحرب.

ربما، مصالح الاحتكارات العالمية ترتد عن قيم الدولة بالمفهوم التقليدي، أي الدولة الوطنية، دولة الرعاية الاجتماعية والضمان الصحي والتعليم المجاني، وتدفع إلى تهميشها، ودفعها إلى الخلف، وإدخال مجتمعات المركز في المستقبل، في صراعات هامشية، مثلما يحدث في أطراف النظام. كبلداننا؛ لهذا علينا ألا نستهين بما نرى ونشاهد، نقرأ ونتابع الأحداث من منظور الشك والريبة في كل ما يجري حولنا وبجوارنا ومعنا؛ لنتذكر أن المهمشين هم الضحايا، وهم أول وقود النار.

إن وظائف الدولة في كثير من البلدان الهشة استقلت عن المجتمع بالكامل، وأضحت عائمة فوقه، استقلت عنه، تركته أعزل، بله أصبحت فاعلة في تكريس نزاعات عميقة داخلها، داخل هذه المجتمعات، وتلك الدولة تعمل على تغذية هذه النزاعات واستمرارها، أي: مجرد رام للوقود في النار؛ لتزداد اشتعالًا.
ما نراه في سورية والعراق وأفغانستان كمقدمة، وربما دول أخرى مستقلًا، كتركيا أو إيران أو الباكستان، بنغلاديش، مصر، الأردن وغيرها.

تحولت الدولة في بعض البلدان، وستتحول -بعمق- إلى مجرد مقاول، أو وكيل للاحتكارات؛ لتأكل المجتمع، ولاستمرار تمزيق نفسه بنفسه، وهم يشرفون عليها من عليائهم؛ تنفيذًا لأجندة الأخرين، أو لاستمرار ما تحتاجه العولمة موضوعيًا.

لا استغرب أن يستمر هذا الأمر؛ ليأخذ آسيا كلها وأوروبا وأفريقيا، خاصة أن هذه البلدان جاهزة موضوعيًا للاشتعال البيني على أسس طائفية ودينية ومذهبية وقومية، والحرب في سورية والعراق واليمن وليبيا غذت، وتغذي النفوس المريضة بانتمائها إلى الماضي، وتحقنها وتشحنها بمزيد من الانقسام على أسس قديمة، الغارقة في القدم، خاصة المذهبية والدينية والطائفية. وأوروبا التي تستقبل مجموعات بشرية مختلفة، ستكون جاهزة للانفجار في المستقبل، تأخذ في طريقها الشعوب الأوروبية إلى هذا الأتون الحارق.




المصدر