on
لا تعتبوا على الضيوف
محمد العويد
كنا خمسة عشر صحافيًا، تلاقينا في أحد فنادق العاصمة الأردنية عمان، بهدف تشكيل جمعٍ، مهمته بناء علاقات ثنائية مع مؤسسات أردنية فحسب، تتعلق بالصحافيين وحدهم، لا أكثر ولا أقل، بحسب ذاكرتي التي قطعها حين ذاك اتصال مفاجئ، يطلب “فرط القصة” على وجه السرعة، وهو ما فعلناه جميعًا، وفهمنا الرسالة، وتتالت مغادرتنا لعمّان باتجاه الهجرة، واحدًا تلو الآخر، فيما البقية تنتظر بترقب وحذر.
أغلب العابرين من هناك جرى معهم ما يشبه الذي جرى معنا، وربما أكثر، وفي سياق الثورة السورية، طوال السنوات الست، لم تصمد مؤسسة حقيقية بكامل كوادرها ودورها، حدث ما يشبه الإعلام والإغاثة والضيافة، وتم تطبيع الجميع؛ لتلاحقهم شبهات من هنا وهناك، حتى الزعتري كان “يُثوّرنا” بصوت تظاهراته الليلة، كلما استجد موقف دولي طارئ، كصوت مُعبّر عن ثورة السوريين، جرى “تدجينه” وباتت هموم قاطنيه حياتهم اليومية.
أسارع بالطبع لشكر المملكة على كل جهد قدّمته لصالح ثورة السوريين، تحسبًا لعودة اضطرارية إلى أراضيها وأهلنا هناك، لكن سرد الذاكرة لا يُفسِد للود قضية بين الأشقاء.
ترحيبًا بالقادمين من الحدود “أهلًا بضيوف جلالة الملك”، وقد سمعها كل سوري، وصل أراضي المملكة الأردنية، عشية أيام الهجرة الأولى، وقبل مخيم البشابشة ثم الزعتري، وتوسعت المخيمات، وهو ما يعني احتمال أن ثمة توجيه، فالعسكر غالبًا عواطفهم باردة، وعلى الضفة السورية كان اللواء علي مملوك، وكان رئيس إدارة أمن الدولة يلتقي ببعض البدو، وهم الفئة الأقدر حينها على حمل بذور المهاجرين الأوائل، وترافق ذلك مع إعلان بدء “تحري” أولى المخافر الحدودية، لتسهيل العبور المطلوب، على الرغم من أن نقاط “الهجانة” السورية على طول الحدود المشتركة، لم تكن قوة عسكرية تؤخر، أو تطعن الثوار، إن ولّوا وجهتهم شمالًا، لمعسكرات النظام ومصدر قوته… أخيرًا فتحت الحدود وتحدثت تقديرات المملكة منتصف العام 2012 عن مليون ونصف لاجئ سوري.
من البشابشة إلى الزعتري والركبان المحاصرة
قبل البشابشة أقيم مخيم السايبرستي، قريبًا من مدينة الرمثا الأردنية، وفي مخيم البشابشة، شهدنا بدء تدفق العائلات والمنشقين، ثم زيارات لوزراء خارجية فرنسا وبريطانيا، وتصريحات بأيام معدودة للأسد، وكان ثمة أماني بأيام العودة القريبة، لكن البشابشة لم يعد يتسع، فسارعت المملكة لإنشاء مخيم الزعتري منتصف 2012 بتمويل عربي، ونصح غربي.
اشتد مشهد الزيارات الملكية والجمهورية المتتابعة، وصولًا إلى الأمين العام للأمم المتحدة؛ ليستقبل “الزعتري” في غضون شهره الأول، أكثر من مئة ألف لاجئ سوري، ينتظرون بريق الأمل بالعودة، لكنه سرعان ما تحول لمقر شبه دائم، وباتت شوارعه تغص بالحياة، وبداية الاستقرار في البنية التحتية والخدمية، وتسلل فقدان الأمل للغالبية؛ ليغدو المكان الأكثر كثافة وصورًا لمأساة القرن الواحد والعشرين، ولم نشهد مؤسسة سورية تعنى بهم، كلهم سرعان ما “يفرطوا القصة”.
بقيت الصورة في الضفة السورية مختلفة، فبدل “مملوك”، راحت الشتائم تلاحق الفارين من جحيم الموت، وتدفع بتهم أقلها الخيانة، فكتبت قاصة سورية: “إلى جميع المحتقرين والمذلولين والنازحين واللاجئين والمحسوبين على الشعب السوري، أما شبعتم الانتظار والعروض البائسة المزرية والذل والشقاء من أجل حفنة رز وسكر وكم دولار. يكفي خذوا طريقكم وأولادكم، لجيش الكرامة، لترمموا انكساراتكم، وتستعيدوا بعضًا من عزتكم وكبريائكم المفقود”.
الركبان وإغلاق الحدود
إغلاق موقت أو شبه كلي، ثم نهائي حتى أمام الجرحى والمصابين، مناشدات متتالية بدون أي نتائج، فبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان بداية حزيران/ يونيو 2016، لم تسمح السلطات الأردنية، بدخول أي جريح إلى الأراضي الأردنية، ومنذ نهاية حزيران/ يونيو، تراكمت أعداد كبيرة من الجرحى والمصابين عند الحدود، وقد توفي سبعة مصابين، بينما ينتظر 12 مصابًا المصير ذاته.
وتظهر صور من أقمار صناعية، نشرتها منظمة (هيومن رايتس ووتش)، تكدّس اللاجئين السوريين في المنطقة الحدودية، خصوصًا في مخيم الركبان بين الحدود السورية والأردنية، والذي بات يضم أخيرًا أكثر من 70 ألف لاجئ، وتعده المنظمات الإغاثية ثاني مخيم من حيث عدد اللاجئين السوريين في الأردن، بعد مخيم الزعتري.
وصل لاجئو المخيم إليه عبر نقطتي “الحدلات والركبان” الحدوديتين، ويعانون من أوضاع إنسانية صعبة، تتمثل بانتشار الأمراض، وشح المساعدات الغذائية والطبية، والسكن في أوضاع صعبة في منطقة صحراوية باردة ليلًا وحارة نهارًا، الجانب الأردني يعد الأمن أولوية، بعد عملية استهدفت عناصره في المخيم نفسه، لكن السؤال الباقي والمستمر، هل يُلام السوريون بعد الترحيب باسم الجلالة، وانتهاء مواسم الزيارات والتصريحات من المخيمات، ولا سيما أن هناك مخيمات باتت في العمق الأوروبي.
المصدر