رسالة لي في غرفة نومي


إياد عياش

25 آذار 2011، كان يومًا ربيعيًا بامتياز في حلب. شقّت سيارة الأجرة طريقها عبر الشوارع الخارجية للمدينة، ولحفتني نسائم باردة منعشة، تتغلغل في ثنايا الجسد، وتداعب عقلي بمئة فكرة وفكرة. لم أدرك أن تلك ستكون آخر لحظاتي في وطن، ظننته أبديًا. لم يكن عود الثورة قد اشتدّ بعد، ولم يصل الحراك -بعدُ- إلى حمص أو حلب. كانت الأجواء مشحونة، ومجرّد الحديث عن درعا كان بمنزلة الدخول في حقل ألغام، ومع ذلك؛ كان يعتريني شعور غريب بأني أودّع سورية -كما عرفتها- نهائيًا.

لم تتسع حقيبتي لكل ما أردت حمله، أو لكل تلك الأشياء التي سمعتها وهي تناديني كي لا أفارقها؛ مكتبتي، صوري، كتابات مراهقتي، سرير اكتشاف بلوغي، رسائلي، دفاتر مذكراتي، مدوناتي وخربشاتي. كوفية فلسطين وعلم سورية، كاسيتات، مقلمتي الأثيرة ومكتبي، مذياعي الصغير الذي طالما كان من أعزّ أصدقائي. تركت الكثير خلفي ومضيت. لم أكن أدرك -عندئذ- أني تركت غرفتي لقدر عبثي ومآلات سريالية.

أنا من حمص الأبية، وبيتي الذي ولدتُ فيه، ولم أعرف غيره، هو في حي من أحيائها القديمة. أنا من مدينة عجنتني بالطيبة، وتكوّنت فيها ركائز شخصيتي ودعائم هويتي. وعلى الرغم من حبّي لهذه الحاضرة العريقة، إلا أنني رفضت قيودها ومحدودية آفاقها وخرجت من عباءتها مبكرًا محافظًا -قدر الإمكان- على قيم زرعتها فيّ. مرّ الشهر تلو الآخر والسنة بعد الأخرى، وأنا في الخارج. سقط أول شهيد، امتدت المظاهرات، ثم اعتصام الساعة الجديدة في حمص، ثم الشهيد تلو الآخر، ثم المدينة تلو الأخرى. دخل “الجيش” إلى “الميدان”، ثم بدأ حصار حمص القديمة، وفرغت الأحياء تقريبًا من سكانها ودخلها مقاتلو الجيش الحر.

كنت أرى -كما غيري- أن المقبل أسوأ، وأن مفهوم الحصار -بحد ذاته- يعني إخراج أسوأ ما في النفس البشرية. انتهى حصار حمص بعد أشهر طويلة، لم نعرف فيها عن بيتنا شيئًا، لم يبقَ من عائلتنا الصغيرة أحد في سورية، وشاءت الأقدار أن يفتح باب مملكتنا أحد غيرنا، إنها “رجاء”، صديقة عزيزة لها في بيتنا ذكريات، وتركت من روحها قطعة في منزلنا الجميل، هي من عاش مخاض دخول البيت للمرة الأولى بعد الحصار.

جدران مهدمة، وركام يدمي القلب، وأرواح هائمة في المكان، رائحة الحرب في كل زاوية، وعبثية الدمار هي الطاغية في اللحظات الأولى. بعد دموع فراق لأحبة سكنوا في المنزل، وحرقة على تفاصيل معشعشة في كل ركن من البيت، بدأت تتضح الملامح؛ لا يزال المنزل صامدًا، على الرغم من قذيفة في المطبخ، وأخرى أصغر في غرفة النوم، وتهدّم غرفة مخالفة مطلّة على الشارع، لا يزال البيت محافظًا على بعض من هيبته.

بدأت “رجاء” تدخل الغرفة تلو الأخرى، وتتفحص حجم الدمار، وخلال دقائق، اكتشفت أن المنزل لم يكن مهجورًا كليًا من أصحابه كل هذه الأشهر؛ بل هناك من سكن فيه لفترة ليست بالقصيرة على ما يبدو، وكان ذلك واضحًا مما تركوه من آثار في الغرف، ولكن بانتظارها وانتظاري كانت مفاجأة في غرفة نومي؛ ولم تكن سوى رسالة، تركها أحد زوّار البيت قبل رحيلهم إلى المجهول.

أعود هنا بالذاكرة إلى عشر سنوات على الأقل. كانت غادة السمان أيقونة بالنسبة لي، وكُتبها على الرف فوق سريري بمنزلة رياضة ما قبل النوم. لطالمّا خطّت في كتبها هواجسي، وضربت بقلمها على مواطن ضعفي، وتلاعبت كلماتها بدهاليز دماغي؛ مما خطّته في أحد منشوراتها، جملة خرجت من الكتاب كجنّيّ لم يقبل العودة إلى قمقمه، تقول غادة: “في بلد كبلدنا، يجب اعتبار عدم التحشيش خيانة عظمى؛ لأن الصحو سيقود الجميع إلى الثورة”. جملة حقيقية لها وقع الصاعقة لفداحة معناها، إنها تلخيص مكثّف لواقع مرير، ما كان من دواء له سوى التخدير أو الثورة؛ حتى “نتحرر” منه. تأملتُ الجملة مرارًا وهالني مدى فظاعة معناها، إنها الفاجعة التي نعيشها ونتنفسها يوميًا. قررتُ أن أطبع هذه الجملة، وأزين بها أعلى مكتبي.

والآن، وبعد عشر سنوات، شاءت الأقدار أن يترك أحدهم رسالة لي على هذه الورقة المطبوعة، والمعلقة فوق مكتبي. تقول الرسالة: “إلى صاحب هذه الغرفة، تحية لك على هذه العبارة. نتمنى أن تكون في صفوفنا وتقاتل معنا. الجيش الحر.” (مع توقيع في أسفل الكتابة).

أشهر قليلة بعد ذلك، تمكّن صديق عزيز من إيصال الرسالة مع الكتابة الأصلية إلى غربتي، مشاعر متناقضة جدًا اعترتني؛ فأنا أمسك بقطعة من روحي، برسالة أتتني من بيتي هناك. أمسكُ برسالة كتبها غريب لي لم يعرفني، رسالة وجهها شخص عرف موقفي من دون أن نتحدث، شخص سكن غرفتي وربما قرأ كتبي، لم يكن شخصًا عاديًا، كان مقاتلًا مسلحًا دعاني؛ لأكون رفيقه في الكفاح المسلّح.
إلى من نام على سريري، وقرأ كتبي، وتأمل سقف غرفتي، وأمسك بأقلامي، وأراح رأسه على وسادتي، وأسند بندقيته إلى مكتبتي وعاش لفترة في مملكتي، ها أنا أرد على رسالتك، وكلّي أمل في أن الحياة لا تزال تنبض في عروقك: “إلى صاحب هذه الرسالة، تحية لك على ما خطّته يدك، أتمنى أن أتعرّف عليك، ونتعاون في إعادة بناء غرف بيتنا، وغرف بيتك، في بلد لا يُدفع أبناؤه لخدر قاتل، بل لصحوة الحرية والحياة”.




المصدر