أمراض نفسية ومشكلات عصبية لأطفال سورية


فارس وتي

يُروّع صوتُ أزيز الطائرات قلوبهم، وتتجدد مشاهد القتل والدمار أمام أعينهم كل يوم، ويواجهون فقداناً لأهلهم وأحبتهم، ولا يتوافرون على أبسط ما تقضي به الشروط الإنسانية، هذه في الحقيقة هي الظروف التي يعيش ما بها أطفال سورية هذه الأيام، بين العيش الحرب ومتابعتها، تضيع طفولتهم، وتزداد معاناتهم، وتتفاقم أزماتهم النفسية والعصبية، مع تراجع أفق ترميها.

يًركّز أطباء علم النفس والتربويون على الصدمة كأكثر الآثار السلبية للحروب على الأطفال، وغالبًا ما يصاحب الصدمة خوف مزمن (فوبيا) من الأحداث والأشخاص والأشياء التي ترافق وجودها مع الحرب، مثل صفارات الإنذار، وصوت الطائرات، يقابلها الطفل بالبكاء أو العنف أو الغضب أو الاكتئاب الشديد، وإن كانت الصدمة ناجمة عن مشاهدة الطفل لحالات وفاة مروعة، أو جثث مشوهة لأقارب له، فإنها قد تؤثر على قدراته العقلية، وتتسبب الصدمات للأطفال بمشكلات عصبية ونفسية ممتدة مثل الحركات اللاإرادية، وقلة الشهية للطعام، والابتعاد عن الناس، والميل للتشاؤم واليأس، وسرعة ضربات القلب في بعض المواقف.

تُفجّر الحروب لدى الأطفال أزمة هوية حادة، فالطفل لا يعرف لمن ينتمي ولماذا يتعرض لهذه الآلام، وحتى إذا لم يفعل الأطفال ذلك فإنهم يجدون أنفسهم في حالة من التشرد والفقر تفوق قدرتهم على الاستيعاب خصوصًا على التعبير الجيد عن المشاعر والرغبات مما يغذي مشاعر دفينة تظهر في مراحل متقدمة من أعمارهم في صور عصبية وانطواء وتخلف دراسي وغيرها من الأعراض.

أخطر آثار الحروب على الأطفال ليس ما يظهر منها وقت الحرب، بل ما يظهر لاحقًا في جيل كامل ممن نجوا من الحرب، وقد حملوا معهم مشكلات نفسية لا حصر لها، تتوقف خطورتها على قدرة الأهل على مساعدة أطفالهم في تجاوز مشاهد الحرب.

في مناطق ريف جسر الشغور في ريف إدلب، يشير مدير المكتب الطبي فاضل العمر، إلى أن أكثر من 20 طفلًا بحاجة لعلاج نفسي من الصدمة النفسية التي تعرضوا لها خلال هذه الحرب في إحدى القرى الصغيرة وحدها.

معاناة ممتدة

معاناة الأطفال من الحروب لا تتوقف بتوقف قصفِ طائرات قوات النظام وسلاح الجو الروسي، بل تصاحبهم إلى مراحل في كل حياتهم اليومية والممتدة.

وحول هذا الخطر، قال مصطفى كيالي، الطبيب النفسي المقيم في ريف إدلب لـ (جيرون) “لن يشفى أطفال سورية بسهولة من الاضطرابات النفسية التي تسببها لهم الصور المختزنة في أذهانهم عن مشاهد الموت والدمار الناتجة عن قصف طائرات قوات النظام وسلاح الجو الروسي، فالمشاهد التي يراها الطفل بين سن الثالثة والسابعة تُشكل شخصيته وتؤثر في سلوكه، ولذلك فإن مشاهد الجثث والمنازل المهدمة يختزنها الطفل في عقله الباطن فتفقده طفولته وعفويته”.

وأضاف “الآثار السلبية لتلك المشاهد لا تنتهي بنهاية مرحلة الطفولة، بل تشكل منظارًا يرى الطفل العالم من خلاله، ولأن الأطفال لا يفهمون مبررات الحرب كما قد يفهمها الكبار، فإنه لا سبيل أمامهم للتعبير عن تأثرهم بما يعانون ويعايشون ويرون من تلك الحرب إلا الانطواء والتوجس أو التبلد أو العدوانية”.

جيل أكثر قوة

التأثير السلبي لأجواء الحروب على الأطفال يكاد يكون أمرًا مُسلمًا به، لكن على الجانب الآخر هناك من يرى في تلك الأجواء شيئًا من الإيجابية.

وفي هذا المعنى، قال خالد قيطاز، عضو إحدى المجمعات التربوية الحرة، والمرشد النفسي في إحدى مدارس ريف إدلب، لـ (جيرون) “سيكون الجيل الذي يعيش تلك الأجواء أكثر قوة وقدرة على التحمل، شرط أن يكون وراء هؤلاء الصغار أًسر واعية تشرح لهم ما وراء مشاهد الحرب التي يعايشونها أو يشاهدونها، ولذلك من المهم ألا يرى الطفل المشاهد التي تحصل في يومنا هذا من مشاهد قصف ودمار وقتلى الحرب، بل لابد من وجود بالغ بجواره يشرح له دلالة الأحداث وما وراءها”.

عمر الحسين، طفل في التاسعة من عمره، من ريف إدلب، يعلم أن طائرات قوات الأسد قصفت الحي القاطن فيه وقتلت شقيقه ووالده، وتقول والدته “لم أجد مفرًا من إخباره بالحقيقة، أطفالنا يكبرون قبل أوانهم، ماذا نفعل إذا كانوا يرون بأم أعينهم مشاهد القتل والدمار التي تحدثها طائرات النظام في كل قرى ومدن ريف إدلب”.

المعايشة أصعب من الحديث

قد يسهل الحديث عن الآثار التي تصيب الأطفال من الحروب سواء عايشوها أم شاهدوها، لكن تجارب الآباء والأمهات مع هؤلاء الأطفال هي التحدي الذي يواجه كل أسرة، فربما يكون من السهل أن نقول للآباء والأمهات: لا تدعوا أطفالكم يرون مشاهد القتل والدمار في نشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن ماذا نقول لمن يعيشون التجربة حية؟ ماذا تقول الأم لطفلها عندما يرتج بيتها من القصف، وينهار البيت المجاور ويموت زملاء وأصدقاء أطفالها الذين يسألون عنهم، يبدو أن واقعنا المعيش أكثر تعقيدًا من كل نظريات التحليل والتنظير.

تقول سميرة الخالدي، وهي من ريف إدلب وأم لثلاثة أطفال (4 و6 و8 سنوات) “عشت تجربة من هذا النوع، فعندما كان أطفالي يسمعون أصوات الغارات، كنت أخبرهم أنها أصوات المفرقعات التي اعتادوا سماعها أثناء الأعياد، لكن هذه الكذبة لم تدم طويلًا، فالأطفال أصبحوا يرون هذه الغارات ويسمعونها في آن واحٍد، في النهاية لم أجد بدًا من إخبارهم بحقيقة ما يجري رغم صغر سنهم”.

في مثل هذه الأجواء لا يصبح هم الآباء والأمهات حماية الأطفال من مشاهد العنف والموت، بل حمايتهم من الموت نفسه.

من جهتها تقول خنساء عبد الناصر، وهي أيضًا من ريف إدلب “لم تنجح أساليب حبس أطفالي في البيت لحمايتهم من قصف طائرات قوات النظام، إذ طال منزلي صاروخ من إحدى طائرات العدوان الروسي، وتوفي نتيجته زوجي واثنان من أطفالي، وهكذا تسلل الموت الى بيتي، فأين أذهب بصغاري؟”.

ماذا نفعل

يواجه الأهل تحديات جمة في التعامل مع أطفالهم أثناء الحروب في أغلب مناطق الشمال السوري عامةً وإدلب خاصةً حيث تدور فيها حرب ضروس، وفي كل الأحوال يحتاج الأطفال إلى معاملة خاصة من ذويهم، سواء كانوا ضحايا للحرب أو مجرد متابعين لها.

بعض المناطق في ريف إدلب أدركت خطورة هذه المسألة فعمدت إلى مساعدة الآباء والأمهات من خلال حصص دراسية في المدارس تهيّئ الأطفال للتفاعل مع الحرب دون صدمات.

ويقول أحد الأطباء النفسيين في المحافظة “أول ما يجب أن يفعله الآباء والأمهات عند تعرض الطفل لظروف مروعة في الحروب، هو أن يحيطوه بالاطمئنان ولا يتركوه دون دعم نفسي، وأن يطمئنوه بأن كل شيء سيكون على ما يرام، مع تشتيت فكره عن الحدث المروع”.




المصدر