ذاكرة الخشبة


غسان الجباعي

فن المسرح -كما هو معلوم- أقل الفنون قدرة على الرسوخ في الذاكرة وأكثرها عرضة للنسيان؛ ليس بسبب عجز هذا الفن العريق أو قلة كفاءته وقدرته على التعبير والتأثير؛ بل بسبب طبيعته وخصائصه الذاتية. إنه ابن اللقّاح الحي بين “الخشبة” والناس، وهو نتاج الحوار المباشر واللحظة الحياتية الآنية التي لا تتكرر ولا يمكن تسجيلها أو حفظها، في أرشيف أو متحف، أو الإمساك بها ونقلها -عبر الزمان والمكان- إلى الأجيال القادمة، كما نفعل باللوحة والفيلم والمنحوتة واللّحن والكتاب والأغنية. هذه الفنون تُصنع مرة واحدة وقد تعيش مئات السنين، لكن العرض المسرحي “الفرجة” يولد كل ليلة ويموت ليولد من جديد في الليلة التالية.

ماذا بقي لنا من المسرح الغابر سوى قليل من النصوص الصفراء والأماكن المهجورة الصامتة، والكثير من البحوث والدراسات الصاخبة.؟ نحن اليوم لا ولن نستطيع استعادة لقطة واحدة حيّة من مسرحيات مارون النقاش وجورج أبيض، أو تلك العروض الغنائية التي قدمها مؤسس المسرح السوري أبو خليل القباني، (الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح، وناكر الجميل، وهارون الرشيد، وعايده، والشاه محمود، وأنس الجليس) وغيرها. اندثرت عروضه النابضة بالحياة وبقيت ألحانه وأغانيه رغم الزمن.

ماذا بقي من تلك الشخصيات التاريخية التي وقفت ذات يوم فوق مدارج المسرح الإغريقي الحجرية، أو خشبات عصر النهضة وستائر مسرح الباروك العملاقة، أو تحت أضواء المسرح الحديث وديكوراته المتقنة؟ لم يبق شيء إلا بضعة نصوص ووثائق نادرة؛ وهذا أمر بدهي. فمن أهم خصائص المسرح أنه يتوالد -كل ليلة- مع ابتداء العرض ويموت مع انتهائه، وأنت لا تستطيع أن ترى الرقصة مرتين، كما لا تستطيع “أن تعبر النهر مرتين”. والعروض المسرحي مثل أمواج البحر؛ تتشابه في الشكل فقط، لكنها لا تتكرر أبدًا.

وليس العرض وحده من يموت ويعيش فوق الخشبة، بل المُشاهدون –أيضًا- يتبدلون ويتجددون -كل مرة- في صالة العرض. أما تسجيل العروض في صور وشرائط سينمائية وتلفزيونية، فهو مجرد عملية إحالةٍ وترحيل من فن المسرح الحي إلى فن التصوير الفوتوغرافي أو التلفزيوني؛ وهي محاولة بائسة، قد تعطي فكرة عن العرض لكنها في الواقع، ليست أكثر من نسخة ميتة وبعيدة -تمامًا- عن العرض الحقيقي.

ويصبح الفن المسرحي بلا ذاكرة -عمليًا- في ظل الطغيان والدكتاتورية المبتذَلة التي تعمل جاهدة على مسح الذاكرة وجر الثقافة والفنون إلى مستوى من الانحطاط الفكري والأخلاقي والجمالي، لا يليق بها وبطبيعتها ودورها. ويتمّ ذلك بالإغراء حينًا، وبالقوة والقهر والإرهاب، أحيانًا أخرى، عبر: الأحكام العرفية ومصادرة الحريات وتعليب الإبداع واحتكار السياسة وتجريم الرأي الحر ومنع التعبير والتجمّع وقتل الخيال وحسّ المبادرة وتحريم الاقتراب من المقدس “التابو” وغياب النقد وإهمال الأرشفة؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى: تسييس الثقافة وتحويلها إلى ملحق عقائدي ومجرد شعارات فارغة وصراخ أجوف في وجه الهواء، أو مجرد علف روحي ونشاط خلّبي سطحي مؤطّر؛ يسمّم المواهب ويفسد الذائقة المرهفة ويقيّد الحلم، ويجعل الفنون كلها مسطّحة سخيفة؛ حيث يمنع التجمّعَ، والمسرح تجمعٌ، ويمنع الحوار، والمسرح مجلس للحوار، ويمنع الرأي وحرية التعبير، والمسرح رأي وتعبير وتوق للحرية، ويشوه كل ما هو جميل وحميم وشيق، والمسرح نبراس للجمال والصدق والشوق.

كل هذا وغيره يحول فنون المسرح -بسهولة- إلى فنون هابطة متهافتة من حيث المبنى، تافهة من حيث المعنى، لا تاريخ لها ولا هوية، ويفسح المجال واسعًا لنمو الطحالب والعشب اليابس فوق الخشبة، فتنقلب إلى مكان موحش ورخيص؛ ذلك المكان المعتم بغياب الناس، المضيء المتألق بحضورهم، الذي وُجد كي يرقص في أرجائه الضوء، جنبًا إلى جنب مع أجساد الممثلين وأرواحهم، ويصدح منه الأصوات والموسيقى، وتتوالد فيه القيم السامية والمشاعر الإنسانية العميقة.

إنه الفن الأكثر التصاقًا بالحرية، والوجدان، والأكثر تعبيرًا عن روح الشعوب، وحال المجتمعات، والبلدان التي تعيش فيها. إنه فن الحرية وحرية الفن، في آن، والمرآة العظيمة والعميقة التي تعكس جوهر الحياة ونبض التجمعات البشرية وعمقها التاريخي ومستواها المعاشي والحضاري. وهو خلاصة الفرد والمجتمع، وقيمه الفكرية والأخلاقية، ووجهه الحقيقي الكبير الذي يظهر عمليًا على خشبة صغيرة.

والمسرح –قبل هذا وذاك- عمل وطني بامتياز؛ لا يستطيع أحد إنتاجه بمعزل عن الطاقات الإبداعية للمجتمع كله، بما يملكه من مواهب وهوايات أهلية وأكاديمية، بكل تنوعها وغناها؛ فهو فن جماعي مركب من كل الفنون الأساسية، ويحتاج إليها جميعًا: أدب تمثيل تشكيل موسيقى رقص غناء ديكور إضاءة مكياج ملابس إخراج إنتاج جمهور؛ وحتى سينما… وهو من حيث المضمون، يعيد إنتاج حياتنا ومشاعرنا ويدعونا للتفكير فيها؛ فهو ليس مدعوًا فقط للتعبير عن حياة الناس وعواطفهم وأفكارهم وتراثهم وتطلعاتهم الشخصية والعامة، بل مدعو -أيضًا- إلى سبر دوافعهم وسلوكهم وفهم أعماقهم -أعماق النفس البشرية- وتحرير طاقاتهم الإبداعية والفكرية والنفسية، والدفاع المستمر والمتجدد، عن حقوقهم وقيمهم الإنسانية العليا: الحب الجمال المساواة العدالة الحق الكرامة الحرية.

فهل للمسرح السوري من ذاكرة أو ماهية أو هوية؟

إذا كان الجواب بالنفي -وهو كذلك- فعلينا أن نبني تلك الذاكرة –جنبًا إلى جنب- مع كل جدار وبيت من بيوت مدننا السورية المدمرة، ومع كل شجرة محروقة ونفس بشرية جرحتها الحرب.




المصدر