عن الشكوى من اليسار


عمار ديوب

اليسار فشل ولا شك بذلك. والدول التي ما زالت تقول بأنها اشتراكية، كالصين وفيتنام وكوبا وكوريا، هي -في الحقيقة- مختلفة في توجهاتها، ولكنها إما اختارت العزلة كالنظام الأبوي في كوريا الشمالية، أو أنها تندمج -بأشكال متعددة- في العالم الرأسمالي، وتطبق سياساته الليبرالية في الاقتصاد. الأحزاب اليسارية أوقفت أحلامها بعالم جديد نقيض للرأسمالية، وأحلامها الأكثر ثورية باتت تتركز في تعميم الديمقراطية، وتحسين حياة الفقراء ضمن إطار السياسات الليبرالية المناقضة لهذه الفكرة، والمعززة لكل أشكال النهب والإفقار والحروب في العالم! اليسار الذي ما يزال يحلم ببديل عن الرأسمالية، ويضع تصورات وأفكارًا عن اشتراكية مستقبلية، بالكاد يُلحظ، ويتحدّد ببعض التجمعات الماركسية الهامشية، أو بمفكرين ماركسيين. توجهات اليسار الأخير -بالعموم- لا تغري اليساريين، وهي محط تندر لا يتوقف لدى الليبراليين وسواهم. المحاولات النقدية من زاوية اليسار لليسار، وتأسيس يسار جديد يعتورها التشوش الكامل؛ فهي تتراوح بين نقد اليسار، وقد أصبحت “عظامه مكاحل”، أو تذهب نحو الخيار الليبرالي والمتعلق بالتسليم بالنظام الرأسمالي كسيرورة مستمرة، والإشادة بأهمية الديمقراطية وحض الرأسمالية على تطبيق أشكال من العدالة الاجتماعية، بما يُعزّز من قيم الليبرالية في العقل والمواطنة والحرية، وبعيدًا عن الأفكار الاشتراكية في التشهير بالأزمات التي تخلقها الرأسمالية أمام فقراء وشعوب العالم المُختلفة. الأزمات تلك أصبحت سمة عامة للرأسمالية منذ 2008.

في دمار ومجزرة سورية وقفت أغلبية اليسار العالمي مع النظام وضد الثورة الشعبية. يوضح موقفها التأثير الكبير للستالينية، وأنها ما زالت خاضعة لرؤية قديمة عن أن النظام وطني وعلماني، ويواجه تدخلاً إمبرياليًا – خليجيًا، وهي دعاية النظام ذاته؛ المشكلة -هنا- لم تقتصر على اليسار العالمي، بل حتى اليمين الأوروبي له المواقف ذاتها، ونادرًا ما شهدنا وقفات “ليبرالية” أوروبية مؤيدة للثورة، ومنددة بالحرب في سورية وبممارسات النظام. أريد القول: إن اليسار العالمي أصبح من الماضي نعم، ولكن كذلك الليبرالية أيضًا، والتي أدخلت سياساتها العالم في أزمة كبيرة، ويبدو أنها تتضاعف!

التشوش العالمي تجاه الثورة، دون شك، تتحمله المعارضة السورية بكل تياراتها، ولكن كذلك هامشية اليسار العربي والسوري، والذي وقف -بدوره- مؤيدًا للنظام. اليسار السوري والعربي الذي رفض النظام، ظل مجموعات صغيرة، وعلى تعددها، فقد ظلت هامشية، ودورها محدود، ولم تستطع تقديم الصورة الصحيحة عن الثورة للإعلام العالمي أو العربي، وكذلك لليسار العالمي؛ أي أن السوريين، واليسار السوري خاصة، يتحمل مسؤولية في ذلك؛ وهو وعلى الرغم من نقده لليسار القديم، المؤيد للنظام، ظل يسارًا مشتتًا متصارعًا في ما بينه، ولم يستطع تشكيل قطب واحد، ولم تدفعه خمس سنوات من الثورة والحرب نحو ذلك؛ يسار بهذه الهشاشة يسار ميت بالضرورة.

حركات اليسار في أوروبا، كاليسار اليوناني والإسباني والبرتغالي، وفي إيرلندا وفي أميركا اللاتينية، وعلى الرغم من قوتها الكبيرة، واحتمال وصول بعضها للحكم، كما في اليونان، فإنها لا تعي خطورة السياسيات الليبرالية على مستوى العالم، ولا أزمة الرأسمالية كأزمة عالمية، ولم تقرأ أسباب الثورات العربية التي هي في وجهها الأساسي ثورات شعبية متضرّرة من تلك السياسيات. أقول حركات اليسار تلك لم تشكّل محاور يسارية عالمية في أوروبا ذاتها، وبالتأكيد ليست مهتمة بتشكيل أحلاف يسارية مع الحركات المناهضة للعولمة على مستوى العالم. اليسار -هذا- تراجع في مستوى تنسيقه “الأممي”، ليس عن المؤسسات الأممية للأحزاب الشيوعية فحسب، وكذلك عن التنسيق العالمي للحركات المناهضة للعولمة، والتي برزت في تسعينيات القرن الماضي، وتركزت في أميركا اللاتينية، وأصبحت الآن هامشية. إنه يسار محلي في رأسمالية ولدت عالمية، وهذا ما يقوده إلى الفشل المحلي والعالمي؛ فليس من معركة يمكن أن تنجح وتظل محلية فحسب، وفي هذا، هناك نقاش كبير عن هل الرأسمالية فعلًا ولدت عالمية، وكذلك هل يمكن لثورة اشتراكية أن تنجح في بلد واحد، أم يجب أن تندلع في دول عديدة، وهناك رأي آخر يؤكد أن لا اشتراكية ممكنة التحقق، دون أن تخرج من رحم الرأسمالية وعبر أدواتها السياسية، أي: عبر المؤسسات الديمقراطية.

نعم يجب دفن اليسار بصورته القديمة الستالينية، أي: اليسار الذي كانت نتيجته أنظمة شمولية، ولم يتخلص من الإرث القديم، وسورية فضحته بشكل كامل، وكذلك يجب التخلص من اليسار الليبرالي، وقد فشلت كل مقولاته في عالم جديد تقوده العولمة، ونحو الديمقراطية، وكان التدخل الإمبريالي الذي دعا إليه وبالاً على أفغانستان والعراق وسورية، ولم يتحقق أي شكل من أشكال العدالة الاجتماعية وفق رؤيته؛ اليسار -بشكله القديم والجديد- لم يعد صالحاً لمواجهة أزمات العالم، وتقديم بديل مقبول، لا من خلال الرأسمالية ذاتها، ولا عبر نقضها.

العالم -الآن- غارق في أزمات كبرى؛ بسبب السياسات الليبرالية المعممة عالميًا، منذ أواخر الثمانينيات. العالم -الآن- يخضع لهيمنة أميركية تؤزمه بالكامل، ويوضح ذلك مسار العراق وأفغانستان وسورية وليبيا واليمن، وقبلها جميعًا الصومال. نقول كل هذه البلاد توضح أن الانتقال من اليسار نحو الليبرالية كان خطأً كبيرًا، كذلك كانت نتائج الانتقال من الدولة “الكينزية” إلى الدولة الليبرالية الجديدة. نوجز هنا: أي نظرية أو رؤية تتجاهل نقد الليبرالية، وتوجه مدافعها نحو اليسار ستتجه نيرانها نحوها، فهامشية اليسار وقوة الليبرالية منذ الثمانينيات وفشل الأخيرة هو مقياسنا هنا؛ فالعالم وبدءًا بأميركا غارق في أزمات اقتصادية وسياسية كبرى، وكذلك بقية دول العالم، والصين أزمتها السياسية معروفة، عدا عن ملايين الفقراء والمهمشين، واحتمال اندلاع أزمة اقتصادية فيها.

دفن اليسار العالمي أصبح أكثر من ضرورة، ولكن ذلك لا يصح دون دفن شريكه الليبرالي الفاشل والصاعد على إثر سقوط الاتحاد السوفياتي. قيمة النقد لليسار تكمن -تحديدًا- في النقد ذاته، وفي تحديد تصورات جديدة في كافة أوجه الحياة، وبما يتجاوز الليبرالية، ولا يستعيد مقولاتها أو أنظمتها التي شكلتها منذ أكثر من ثلاثة قرون.




المصدر