on
في ضرورة نقد العمل السياسي
حسام ميرو
بعد انتفاضة السوريين في آذار/ مارس 2011، سيطرت أشكال سياسية محددة على العمل السياسي السوري، بات من الواجب الوقوف عندها، وتأملها، ونقدها، في سياق توالي الأحداث في مأساويتها على المستوى الوطني العام، فمن دون وجود نقد فكري – سياسي جدّي لتلك الأشكال السياسية، لن يكون بالإمكان فهم حيّز كبير من حالة الإخفاق في العمل السياسي بشكل عام، وإخفاق الأشكال التي احتكرت التعبير عن “الثورة” بشكلٍ خاص.
جاءت التشكيلات السياسية في محاولة لمواكبة الانتفاضة، وخلق شكل سياسي يمثلها. ولا بد هنا من تسجيل ملاحظة أساسية، وهي أن أغلب القوى التي تشكلت منها الهيئتان الأساسيتان، أي “المجلس الوطني”، و”هيئة التنسيق الوطنية”، هي قوى سياسية تنتمي إلى ما قبل الانتفاضة، وهي معارضة عملت وعاشت وعرّفت نفسها بالتضاد مع النظام، وكانت قد أخفقت تاريخيًا في صراعها مع النظام، لأسبابٍ عدة، منها ما هو موضوعي/ خارجي، ومنها ما هو بنيوي/ داخلي.
وجدت القوى السياسية التقليدية في الانتفاضة فرصة لتجديد دورها، والاستفادة من حالة الفراغ السياسي، فلم يتسنَ للانتفاضة ببعدها الشعبي أن تكوّن تعبيراتها السياسية، وهو ما أتى في مصلحة تلك القوى التي شاخت ببرامجها ورموزها وخطابها، لكنها استفادت من علاقاتها مع بعض دول الإقليم، لتطرح نفسها كممثل عن ثورة السوريين، وهو ما تؤكده الحملة التي روّج لها المجلس الوطني تحت شعار “المجلس الوطني يمثلني”، لاكتساب شرعية شعبية، وقد استجاب كثر لهذه الحملة بدوافع عدة، منها الحاجة إلى مظلة سياسية تعبّر عن الانتفاضة، بالإضافة إلى تطلّع البعض إلى تكرار تجربة “المجلس الوطني الليبي”، وتسريع وتائر إسقاط النظام، وإرسال رسالة إلى المجتمع الدولي بوجود بديل جاهز عن النظام.
وبعد تشكل “المجلس الوطني” راحت الساحة السورية في الداخل والخارج، وخصوصًا في الخارج، تشهد نشوء تيارات سياسية، اتخذت صيغًا عدة، مثل “الحركة”، و”الكتلة”، و”الحزب”، و”التيار”، والائتلاف”، وكان معظم تلك التشكيلات يسعى للوصول إلى “المجلس الوطني”، أو “الائتلاف الوطني”، بعد تأسيسه.
شكّل إغلاق “المجلس” ومن بعده “الائتلاف” الباب أمام القوى الناشئة للانتماء إليه، دافعًا لبحث العديد من الشخصيات والقوى إلى إنشاء تشكيلات سياسية، من أجل التعبير عن مواقف سياسية أكثر استقلالية، والقول بأن التعبير عن الثورة لا يمكن اختصاره بمنصة واحدة، خصوصًا مع فشل تلك المنصة في أن تكون مظلة منفتحة لمختلف القوى السورية، وغياب الشفافية عن عملها، وتحوّلها إلى ساحة خلاف بين كتلها على أساس القرب والولاء لهذه الدولة أو تلك.
بالطبع، لعبت القوى الإقليمية والدولية دورًا سلبيًا في تبلور مظلة سياسية جامعة، حيث راحت كل دولة تستقطب قوى وشخصيات بعينها، وضغطت لمنع وحدة القوى السياسية المعارضة، كما حصل في مؤتمر توحيد المعارضة في 2 و3 تموز/ يوليو من عام 2012، وقد كان المؤتمر آنذاك أهم فرصة لتجسير الهوة بين الرؤى المختلفة، والانطلاق منها نحو توحيد آليات العمل، ووضع برنامج مشترك، وآليات للقيادة.
لا يعفي دور القوى الإقليمية والدولية السوريين من مسؤولية تفريطهم في مقومات العمل السياسي في بعده الوطني، الذي كان يجب أن يتناسب مع الحراك الشعبي في العامين الأولين من الانتفاضة، ومن ثم العمل العسكري، وهو ما أفضى لاحقًا إلى وجود هوة واسعة بين القوى السياسية السورية وبين الفصائل المسلحة، فعوضًا أن يكون العمل العسكري مؤتمرًا بالقرار السياسي أصبح منفصلًا ومستقلًا في مرجعياته وقياداته، وحتى في علاقاته الخارجية.
وهكذا دخلت السياسة الممثلة للانتفاضة في مأزق كبير يعبر عن أزماتها خلال الخمس سنوات الماضية، فباتت مشلولة وعاجزة عن التواصل مع السوريين، بل أنها لم تعد قادرة على تمثيل إلا نفسها. كما برزت لاحقًا منصات عدة، مرتبطة، بشكلٍ فاضح، بعواصم بعينها، مثل “موسكو”، و”القاهرة”، وباتت ضرورة تفرضها إرادات الدول الفاعلة في المسألة السورية، ولا تعبّر عن امتداد جماهيري حقيقي، أو حاجة حقيقية للحل، بل أن هذه الأشكال السياسية باتت عقبة في وجه بروز قوى سياسية حقيقية، فقد أسهمت عبر فشلها في تكريس مناخ اليأس من العمل السياسي، وهو المناخ التي أسهمت فيه العديد من العوامل الموضوعية الأخرى.
ومع كل ذلك، فإن غياب العمل السياسي سيبقى ضرورة ومهمة، وسيبقى غيابه يلعب لمصلحة كل القوى المعرقلة للحل السوري، فهذا الغياب مؤشر خطير على مدى الانكسار الذي أصاب السوريين، وعدم إحساسهم بأي جدوى من تنظيم أنفسهم، ووضع طاقاتهم في إطار سياسي – تنظيمي، بل وعدم تقديرهم لطاقاتهم نفسها، ووصولهم إلى قناعة مفادها أن سورية باتت مسرحًا للعبة الأمم، ولم يعد ثمة دور للسوريين في قضيتهم.
إن نقد العمل السياسي المعارض، هو اليوم، مجرد صرخة، في ظروف كارثية يعيشها السوريون، لكنها صرخة واجبة، فإعادة الاعتبار للسياسة مقدمة للنهوض بالعمل الوطني ككل. وقبل ذلك، فإن وضع العمل السياسي في دائرة النقد الفكري من شأنه أن يشكل عتبة أولى، هي عتبة الاعتراف بأسباب الإخفاقات الماضية، ومحاولة تخليص العمل السياسي من إرادات ومصالح القوى الإٌقليمية والدولية، وإعادة الاعتبار للبعد الوطني، بوصفه العامل الرئيس في نجاح العمل السياسي، وإقناع السوريين بأن تنظيم الجهود أمر لا مفر منه لتجاوز محنتهم، مهما طال الوقت، أو تعقدت الظروف.
المصدر