on
مهند الحاج علي يكتب: في أننا نكرههم جميعاً
مهند الحاج علي
في نهاية حربنا الأهلية، بعدما خفّ القتال واقتصر على مناوشات محدودة بين ميليشيات شيعية في بعض أحياء بيروت الغربية، أصلحت دراجة ”فيسبا“ نارية-هوائية قديمة كانت في مرآب منزلنا. انطلقت من حيّنا فائزة الصلح في البسطا الفوقا باتجاه رأس النبع و”السبق“. كانت أشبه بنزهة في غابة موحشة. أحياء خالية قرب خطوط التماس القديمة وعلى كل مبنى دون استثناء آثار الرصاص والقصف. طبعاً لم يكس الزفت الطرقات حينها، ولا طُمرت الحفر الموزعة على طولها وعرضها. وكانت الحرب والإذاعات والتلفزيونات حوّلتنا خبراء عسكريين. ننظر إلى قطر الحفرة وأثرها لنُقوّم عيار القذيفة. في رأس النبع، رأيت شُرفة متدلية وقد اخترقت القذيفة الأسس الفولاذية والاسمنتية ودمرت واجهة الشقة. لا بد أن يكون عيار هذه القذيفة ”١٥٥“. مبنى دُمر بالكامل؟ إذن، قذيفة من عيار ٢٤٠ أو قصف جوي اسرائيلي.
أكثر ما لفتني حينها أن الشعارات والصور الحزبية-الميليشيوية عند خطوط التماس أقلّ مما نراه عادة في المناطق الداخلية. ربما لأن فائدتها أقل، إذ تستهدف السكان أكثر من المسلحين أنفسهم.
كانت حرب الغربية والشرقية انتهت، إذ أكملت قوات الردع السورية سيطرتها على الأراضي اللبنانية بالكامل بعد هزيمة العماد ميشال عون وفراره، وموافقة غريمه زعيم ميليشيات القوات اللبنانية سمير جعجع على تسليم السلاح. كانت هذه نهاية فعلية للحرب. لكن بالنسبة لنا، سكان الحي، كانت مبرراتها ساقطة. سئمنا الحرب ورعبها واختبرنا لا أخلاق ميليشياتها من الخوات والإهانات إلى الضرب والسرقة، لكننا لم نقدر على التعبير عن موقفنا إلا من خلال طقوس وطنية هزيلة في منازلنا، كمثل الوقوف أحياناً أمام التلفاز عند عزف النشيد الوطني. حتى عندما بدأت حرب التحرير، كانت قلوبنا وبعض جيراننا مشدودة إلى بعبدا والعماد ميشال عون. كلّما اشتد القصف، قلقت من احتمال أن يميل أهل بيتنا إلى الجانب السوري في الحرب. لكنهم ثبتوا على موقفهم إلى أن سقط صاروخ ذات ليلة على شرفة منزلنا وكاد يقتلني، لولا دفعني شقيقي الأكبر الى الأرض خلف كنبة مزقتها الشظايا. جارتنا السبعينية أُصيبت بشظية في رقبتها، ونزلت الينا في الطابق الأرضي، وهي تضع يدها على جرحها لوقف النزيف.
المسألة تحولت شخصية بعض الشيء. ساد منطق بأن من لا يكترث بحياتنا لن يجعلها أفضل، وألّا فارق بينه وبين الميليشيات. لكن تداول بعض أهالي المنطقة نظرية بأن الجيش اللبناني لا علاقة له بالقصف، بل مركزه ميليشيا القوات. كنت أقاوم مشاعر الضغينة ضد الجنرال إلى أن علمت بأن والدة صديق لي في المدرسة قُتلت في إحدى جولات القصف. كانت تقف على الشُرفة عندما سقطت عليها إحدى قذائف حرب التحرير. كرهته. تماماً كالموت والإذية، تخييب الآمال مسألة شخصية أيضاً. كما علّقنا آمالاً كثيرة على إعلانات وقف النار، حتى مللنا، تعلقنا أيضاً بأي سياسي خارج الأطر الميليشيوية.
فنتيجة كثرة مشاهداتنا الدموية في الحرب، من الاغتيالات والتصفيات والحواجز إلى القصف العشوائي، كُنا نضع المسلحين وقادتهم في خانة ”لا بشرية“. فمن يملك سُلطة مطلقة في القتل والسرقة، لم يعد منّا. كُنا أشبه بسكان الغيتوات في أفلام المحرقة اليهودية، مجرّد لحوم لها أرجل وأيدي تسير في الشوارع وتقيم في المنازل بلا ضمانات.
وهذا الشعور حيال قادة الميليشيات ورجالهم لم يضمر أبداً، حتى يومنا هذا. لم يتغير شيء. قادة الميليشيات حكامنا، وزعرانهم ضباط ووزراء. ما الفارق بين الكاوبوي الاشتراكي الذي كان يقطع طريقاً رئيسياً وسط بيروت ليلهو بدراجته النارية، وبين مواكب سيارات قادة الميليشيات، حكامنا اليوم، وأسلحة مرافقيهم المشهورة دوماً في وجوهنا؟ كل من يُمضي ساعات في شوارع بيروت يُصادف موكباً لهم وهو يمر أمامهم كأنهم حشرات.
وما زال بعضنا يتوق أيضاً إلى مُنقذ خارج التركيبة الميليشيوية، رغم اصابتنا بخيبات متتالية من رفيق الحريري إلى زياد بارود، والحبل على الجرار. لكن الأهم أيضاً أن في هذا البلد كتلة كبيرة تكره حكامها، كثيراً. وهي عندما تراهم على التلفاز، لا تتساءل عما سيفعلون بنا، بل ”ماذا يفعلون هنا“
المصدر: المدن
مهند الحاج علي يكتب: في أننا نكرههم جميعاً على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -
أخبار سوريا
ميكرو سيريا