نوح… طوفان الثورة والخلاص


أيمن مراد

فكرة الخلاص فكرة قديمة قدم الحياة، تناولها الفكر الإنساني منذ القدم، وتبنتها الأديان كمبدأ أساسي من أسس أو مبادئ الإيمان، وقد اختلفت الأديان والمعتقدات حول فكرة الخلاص وطرقه، لكن قاسمًا مشتركًا يجمع بين هذه الأديان والمعتقدات، مفاده أن الخلاص فردي (فكل نفس بما كسبت رهينة)، وأن طريق الخلاص الوحيد هو إرضاء الخالق، أو عدم إغضابه (اتقائه أو تقواه) على أقل تقدير.

لم يخرج الأنبياء والدعاة جميعهم عن هذا المبدأ، مبدأ الخلاص الفردي، وإرضاء الخالق، وتُخبرنا قصصهم عن فضائل كل منهم واجتهاداته، لكن ما وصل إلينا من قصة نوح عليه السلام، قد يشي بغير ذلك، فقد نستطيع أن نقرأ بقصته نسقًا يختلف عن الأنساق النبوية التي عرفناها.

إذا كان آدم هو أبو البشر ومسبب الحياة البشرية، فاٍن نوحًا هو أبو الحياة برمتها، وإذا كان لوط قد غضب من قومه وأمدّه الله بأسباب فنائهم، فاٍن نوحًا قد تحايل على الغضب الإلهي وأنقذ الحياة واحتضن بذرتها، وإذا كان يوسف فعل ما فعل في مصر ليثبت صحة رؤياه ويرى إخوته وأباه وأمه يسجدون له، فان نوحًا قد فعل ما فعل ليكون بمركب واحد مع أحبائه وحيواناته وبذور أشجاره ونباتاته، وإذا كان أيوب قد صبر على بلواه ليستعيد صحته، فنوح قد صابر على محنته ليستعيد الحياة، كذلك إذا كان الخليل قد هم بذبح ابنه تنفيذًا لأمر الله، فإن نوحًا قد عصى الله مجددًا حين قَبِل أن يلتحق ابنه العاصي بسفينته خلافاً لأمر الله.

يمكن لنا أن نتناول نوحًا وقصته على طريقة البحث في الأساطير ورموزها، وهذا مبحث مهم، فاعتبار مفردات قصة نوح على أنها رموز معرفية روحية قد يفتح فضاءات لم ندخلها من قبل في قصص الأنبياء، التي لم يتم التطرق لها بهذا الأسلوب إلا نادرًا وبشكل خجول، باستثناء قصة سيدنا آدم (أسطورة بدء الخلق)، التي قد تكون القصة الوحيدة التي أخذت قسطًا وافرًا من القراءة، بل تعدد القراءات.

جميع مفردات قصة سيدنا نوح تحمل هذه الدلالات بامتياز عالٍ، فالسفينة والطوفان والأزواج الحيوانية الخ.. هي مفاتيح رمزية (بلغة الأساطير)، ويمكن تناولها بهذا المعنى بكثير من الإسهاب، لكن ليس هذا المقال مقام مناسب لذلك.

يمكن تسليط الضوء على معانٍ ثلاثة حضرت بقوة في قصة سيدنا نوح، ورغم وجود معانٍ أخرى حاضرة، إلا أننا نريد تسليط الضوء على تلك التي يمكن توظيفها في سياق الثورة ومآلاتها، وهذا حق وواجب في الطوفان السوري الكبير، وهي:

1 – سيدنا نوح هو آدم الثاني؛ فإذا كان آدم هو أبو البشر، فاٍن نوحًا هو أبو الحياة، فهو مُنقذ الحياة برمتها، بشرًا وشجرًا وحيوانات، وهذا معنىً عميق للخلاص من الطوفان، فلا نجاة ولا خلاص منه إلا باحتضان بذرة الحياة، وتهيئة المناخ لإعادة إنتاجها، وإلا ما معنى أن ننجو دون أن نمتلك القدرة على إنتاج الحياة؟.

2 – سيدنا نوح لم يتبنَّ فكرة الخلاص الفردي؛ بل كان مؤسسًا لمبدأ الخلاص الجماعي، ولم يقل كُلّ نفسٍ بما كسبت رهينة، بل قال جميعنا بمركب واحد، وخلاصنا هو بالحفاظ على بذرة الحياة فينا، والجماعة في عرفه هي جماعة الحياة الطبيعية بكاملها، بشرها وشجرها وحيواناتها.

3 – سيدنا نوح خاض تحدٍ مزدوج؛ فقد تحدّى الطبيعة وغضبها من جهة، وتحدّى المشيئة الإلهية التي كانت تقتضي إنهاء الحياة على هذا الكوكب من جهة ثانية، وانتصر على الطبيعة بقوانينها، فكان أول من ركب البحر، وعاند المشيئة الإلهية مُسلحًا بثوابتها ومُتمسكًا ببذرة الحياة، وقابضًا على إيمانه بصوابية خياره، فكان أن انتصر على غضب الطبيعة وغضب الله معًا، ليُعيد إنتاج الحياة وإنتاج دورتها المتجددة.




المصدر