الثورة السورية وتعدد مسمياتها


فادي كحلوس

إن أهمية تحديد المفاهيم والمقصود منها، يساهم -بلا شك- في عمليتي المعرفة والوعي، ودون هاتين العمليتين؛ سنكون -حتمًا- عرضًة للخطأ، وأمر وقوعنا في فخ (الخلط) أكثر احتماليًة، وهذا ما سيقودنا إلى تقديم قراءات وتقييمات وسلوكيات عمياء، نخرج بها عن سياق المنطق ومنظوره، وننفصل من جراءها عن الواقع.

وعلى الرغم من أهمية التحديد النظري للمفاهيم؛ إلا أن السياق التاريخي -العملياتي- والصيرورة العيانية، يشكلان مدى تجسد هذا المفهوم ومآلاته، والتعامل مع مفاهيم شتى، دون الانطلاق من هذين المعطيين، هو خطأ علمي أولاً.

تعرضت الثورة في سورية لحجم هائل -متفاوت ومتناقض- من التوصيفات، فمن أزمة، إلى فوضى، ومن حرب مفتوحة، إلى حرب أهلية، ومن جهاد، إلى اقتتال طائفي، وغيرها كثير. ومع إهمال ما تم توصيفها به من طغمة الأسد ومواليه، نجد أن “مثقفين” و”سياسيين” و”مفكرين” قد استخدموا توصيفات فيها الخلط، وفيها خروج عن سياق المنطق والواقع.

الثورة كمفهوم؛ ينضوي على فلسفة تغيير وضع سائد؛ نتيجة عدم القبول به، أو الطموح إلى ما هو أفضل منه؛ ولذلك نقول مثلًا: ثورة علمية أو ثورة سياسية، أو ثورة اقتصادية… إلخ. ولا يجب أن يغيب عنا هنا عزل أدوات تلك الثورة، حين نناقشها كثورة، فالثورة السلمية هي ثورة، والثورة المسلحة هي أيضًا ثورة، طالما حافظت على مفهومها الأصيل في التغيير والطموح إلى الأفضل، وإن اختلافنا في أسباب ونتائج وآليات وأطوار ومآلات هذه الثورة، لن يغير في جوهرها بشيء. كما أن إضافة عوامل أخرى، إلى جانب عامل الثورة، لن يلغي تسميتها بذلك، فالثورة سياق وصيرورة، وحين اقتطع فصلًا من هذا السياق، وأتعامل معه على أنه يمثل الثورة بكليتها، وبأنه نهاية المطاف، فإني ارتكب بهذا خطًأ تاريخيًا، عن قصد أو عن غير قصد.

لا يخفى عن القاصي والداني؛ المحاولات الدؤوبة التي مارستها وسلكتها كل القوى الإقليمية والدولية، والتي تتعارض مصالحها مع نجاح الثورة السورية، في سبيل إلباسها ملبوسات متعددة متنوعة، بهدف حرفها عما خرجت من أجله، وتأتي مسألة التسميات المتعددة ضمن هذا السياق؛ فثورة شعبية تهدف إلى إسقاط النظام، طموحًا منها للحرية والكرامة، لن يلائم كل من مِن مصلحته بقاء هذه الطغمة، ولأن الثورة الشعبية -غالبًا- ما يكون موضوع السيطرة عليها أمرًا صعبًا، كما أن عملية إقناعها بالعدول عن أهدافها أمر مستحيل، لذلك يلجأ أعداء الثورة السورية إلى محاولة تمييعها، بالتشكيك في صحة روايتها عن طريق تسميتها “مؤامرة”، أو تخفيف حدتها بوصفها “أزمة”، أو محاصرتها ضمن شروط وأحوال، تضطر خلالهما لاتخاذ مبادرة انفعالية بطبعها؛ لتُنعت بـ “التطرف”، أو يصار إلى زج معطيات جديدة (كداعش والنصرة) في دائرتها الحيوية؛ من أجل حجبها أو تقليل فعّاليتها ولوسمها بالتطرف، ومن ثم، التعامل مع الثورة -بعد كل ما سبق- على أنها “إرهاب”؛ لتجهيز مناخ ملائم للادعاء بأولوية محاربته؛ فتتدخل جميع الدول المعادية لهذه الثورة، والتي شكلت أو ساهمت أو سهلت وجود أطراف متطرفة؛ لتبرر تدخلها من أجل محاربة الثورة، لا محاربة من صنعتهم تلك الدول، كمبررات للتدخل، وهنا يبرز مصطلح “الحرب”، وعبر ما طبق منهجيًا من طائفية وتحشيد طائفي، تأتي الدول والقوى ذاتها لتعلنها “حربًا أهليةً”.

بعد هذا كله، يأتيك من يسأل: أين الثورة؟ أو ليجزم: ليست بثورة، أو ليستقرئ الواقع دون المساس بقوانينه وبمنطقه التاريخي؛ ليقول: الثورة انتهت.

وعلينا كسوريين مؤمنين بضرورة التغيير أن نتجاهل تعدد المسميات، مع تأكيدنا على ثبات الأهداف، وأنه علينا -أيضًا- ابتكار أدواتنا الثورية الجدية، كلما تبدلت أدوات تشويه ثورتنا، ولنا في القضية الفلسطينية خير مثالٍ وخير دليلٍ، فالقضية الفلسطينية بدأت لطرد المحتل الإسرائيلي، ومع مرور الأيام، وما انضوت عليه من منهجية إعلامية وفكرية، تمت محاولات لخلخلة هذه القضية جوهريًا، فبتنا -هذه الأيام- نسمع مفكرين ومثقفين يتحدثون عن “إسرائيل” بوصفها دولة، بعد أن كانت كيانًا صهيونيًا، ويقدمون مبرراتهم؛ “فالأمم المتحدة اعترفت بها كدولة، وواقعيًا لها سفراء وعلاقات سياسية واقتصادية وثقافية مع معظم دول العالم”، كما بتنا ومن حيث لا ندري نقول ونردد: “جيش الدفاع الإسرائيلي”، بدلًا من جيش الاحتلال، كما أصبحنا نستسيغ إطلاق تسمية “إسرائيل” على جغرافيا دولة فلسطين على الخرائط، وغيره كثير من الأمثلة التي جاءت؛ نتيجة تمييع ممنهج ومنظم، فالاستهانة بالألفاظ والتعابير تتبعها استهانة بالمدلولات العميقة، وهذا ما سيساهم في حرف القضايا المحقة، كقضية الثورة السورية عن خطها، وبالتالي؛ عن أهدافها.

وبناءً على تحديد المفهوم ومعرفة فلسفته ورؤيته وقراءته ضمن النسق التاريخي، من جهة، وضمن منطق هذا التاريخ، من جهة أخرى، سنجد أن ما يحدث في سورية هو ثورة، ولا شيء سوى الثورة، وأن الإصرار على التسمية -هنا- لا يعد تعاطيًا مع الشكليات مطلقًا، بل هو مساس مباشر بالدلالات العميقة والمعمقة لهذه الثورة.




المصدر