لمَ التمسك برحيل الأسد؟


خضر زكريا

سؤال يتردد على ألسنة كثيرين، ليس من مؤيدي النظام فحسب، بل من بعض معارضيه أيضًا، الذين يرون في المطالبة برحيل الأسد، كشرط لأي حل للمسألة السورية، عرقلةً للحل.

سأتجاوز، لأغراض هذه المقالة وحسب، الجانب الأخلاقي – الإنساني من المسألة، تلك التأكيدات المستمرة، سواء من ممثلي المعارضة السورية، أم من أطراف إقليمية مُعارضة لنظام الأسد، كتركيا والسعودية وقطر وغيرها، أم من بعض المسؤولين في الولايات المتحدة وأوروبا… من أن من غير المعقول، أخلاقيًا على الأقل، أن يبقى في السلطة رئيس تسبب بقتل أكثر من نصف مليون شخص، وبتشريد نصف الشعب السوري، وتدمير مدن وبلدات بوحشية لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.

المسألة أبعد من ذلك بكثير، على الرغم من الأهمية الفائقة لبعدها الأخلاقي. سأذكر، بما لا يتجاوز التعداد إلا قليلًا، الأبعاد الأخرى لبقاء الأسد في السلطة:

سيعود الأسد وضباطه “المنتصرون” في حربهم على الشعب السوري أكثر عنجهية وتبجحًا، وبالتالي؛ أكثر استبدادًا ووحشية في التعامل مع الشعب، ولاسيما مع أهالي المناطق التي وقفت إلى جانب الثوار. وسيضطر النظام لبناء مزيد من السجون والمعتقلات؛ لأن الموجودة حاليًا منها، على كثرتها وامتلائها، لن تكفي لاستيعاب المعتقلين الجدد، وسيتعاظم تغول الأجهزة الأمنية، ويتحول جميع من بقي من “البعثيين” إلى مخبرين بالضرورة، أو يذهب الرافضون منهم إلى المعتقلات، وستطلق أيادي الشبيحة، على اختلاف مسمياتهم ومواقعهم، في العبث بأمن الناس وأموالهم وأعراضهم دون أي رادع.

النظام الذي بنى “استراتيجيته” في محاربة الثورة والثوار على إذكاء الصراعات الطائفية، سواء بإطلاق “عملائه” من المتطرفين السنّة لركوب الثورة، أم بتخويف العلويين من أن “الإرهابيين” (أي كل من عارض النظام) سيبيدونهم، لن يتمكن من التراجع عن استخدام الطائفية سلاحًا دائمًا، حتى لو أراد ذلك. وسيعمل على تعزيز الحقد الطائفي المتبادل، الذي نجم عن ممارسات النظام وطغمته، إضافة إلى عوامل أخرى أدت -موضوعيًا- إلى تعزيز الانتماءات الطائفية ورفعها فوق الانتماء إلى الوطن، ما سيجعل إعادة اللحمة الوطنية بين جميع السوريين صعبة جدًا.

لن تكتفي إيران وحزب الله، اللذان يكرران القول بأن النظام كان ليسقط دون مشاركتهما في القتال إلى جانبه، ببعض النفوذ في “سورية الأسد” بعد “النصر” الذي حققاه؛ فإيران، منذ تدخلها السافر ضد ثورة الشعب السوري، تعمل على إفراغ مناطق معينة من أهلها؛ لتحل محلهم إيرانيين أو حزب اللاويين أو مشايعين لها في الداخل السوري أو من دول أخرى، وحزب الله بات يسيطر -بالفعل- على معظم المناطق الحدودية السورية المجاورة للمناطق اللبنانية التي يسيطر عليها، وللمرء أن يتصور كيف سيكون الأمر إذا ما استمر حكم الأسد، الذي احتفظ بالسلطة بفضلهما.

لن يكون التخلص من الإرهاب (الإرهاب الحقيقي وليس ما يسميه النظام إرهابًا) طالما بقي الأسد في السلطة؛ إذ من المعروف على نطاق واسع، كيف كان هذا النظام يلعب على الاستخبارات الغربية وغيرها طوال العقود الأربعة الماضية، حيث كان يخلق منظمة إرهابية ما، ثم يهدد بها أو يسترضي إحدى الدول الكبرى بالكشف عن أسرارها أو القضاء عليها. ولنا من حكاية “فتح الشام” في لبنان أبرز الأمثلة القريبة. والواقع أن سلوك الولايات المتحدة والغرب عمومًا تجاه هذه المسألة بالذات يثير الدهشة والاستغراب. ألم يكتشفوا -بعدُ- ألاعيب النظام فيما يتعلق بالإرهاب والإرهابيين؟ يظل هذا السؤال مطروحًا؛ حتى لو تجاهلنا إرهاب الدولة الذي يمارسه النظام على مدى سنوات وجوده في السلطة، والذي صار أوضح من أن يحتاج إلى دليل بعد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها منذ بدء الثورة السورية. لعل الغرب مازال ينام على حرير قدرة أجهزة مخابراته على كشف مخططات الإرهابيين، أو ربما على حرير رضا مدللته إسرائيل عن نظام الأسد، بغض النظر عن توليده الدائم للإرهابيين.

وطالما نتحدث عن الغرب، تجدر الإشارة إلى مسألتين تقلقان الغرب كثيرًا: الأولى ما يتعلق بذلك الرعب المنتشر في أوروبا من تدفق المهاجرين إليها، والذي لا يجادل أحد في أن استمرار الصراع في سورية يشكل مصدره الرئيس. فهل يظن أحد في الغرب، أو في غير الغرب، أن اللاجئين السوريين سيحزمون أمتعتهم للعودة إلى سورية متى ما أُعلن عن “هزيمة” الثورة و”انتصار” النظام” وبقاء الأسد “إلى الأبد”؟ هل يظن أحد أن ملايين السوريين الموجودين اليوم في تركيا ولبنان والأردن، والذين يعدّهم النظام أعداء لنهجه ولأشخاصه الذين يتزعمهم الأسد، سيعودون في حال بقاء الأسد في السلطة؟ يحتاج المرء إلى كثير من السذاجة، وربما البلاهة، ليصدق ذلك. لن يعود من اللاجئين إلى سورية في حال بقاء الأسد سوى أولئك الذين لم يعودوا يجدون لحريتهم أو حتى لحياتهم أي قيمة.

المسألة الثانية التي تقلق الغرب، تمثلها روسيا – بوتين. هذه الـ “روسيا” التي اجتاحت شبه جزيرة القرم، وتذكي أوار النزاعات الأهلية في شرقي أوكرانيا، تمهيدًا لفصل مزيد من المناطق الأوكرانية عن الوطن الأم وإلحاقها بروسيا، روسيا هذه تغزو اليوم سورية، وتقيم فيها القواعد العسكرية، وتعقد الاتفاقات مع نظام الأسد بحيث تبقى في سورية، هي الأخرى، “إلى الأبد”. ألا يخشى الغرب من هذا التمدد الروسي في شرق المتوسط كله؟ ألا يرى قادة الولايات المتحدة والقادة الأوروبيون كيف يعمل بوتين على مد أطرافه الأخطبوطية إلى مصر وتركيا وغيرها؛ انطلاقًا من الموقع الروسي في سورية؟ ألن يكون بقاء الأسد ضمانًا؛ لتنفيذ رسيا – بوتين مخططاتها في المنطقة؟

أخيرًا، هل يتصور أحد في العالم أن الثوار الذين ضحوا ويضحون بدمائهم كل يوم، والسوريين الذين هُجروا من مناطقهم وبيوتهم، وأولئك الذين فقدوا أبناءهم أو أزواجهم أو آباءهم في حرب الأسد على الشعب السوري، وأولئك الذي دُمرت بيوتهم وفقدوا أموالهم وممتلكاتهم، وأولئك الذين قبعوا أو قبع أفراد عائلاتهم في سجون الأسد، ولاقوا أبشع أنواع التعذيب فيها… وغيرهم، وغيرهم، ممن طاولتهم وحشية الأسد وطغمته، هل يتصور أحد في العالم أن أيًا من هؤلاء سيصفح يومًا عن أولئك السفاحين، ويقبل العيش في بلد يحكمونه؟!

“جيرون”