الثورة السورية نمط تغييري عتيق


غازي دحمان

تقع الثورة السورية في إطار سياق عريض من المتغيرات السياسة والاجتماعية على المستوى الكوني، بعضها يرتبط بأزمات سياسية واجتماعية ناشئة، أو في إطار تبلور هويات إثنية وطائفية، صعدت على هامش العولمة، وتُشكّل تلك الظواهر، سواء بالنسبة للأوساط السياسية والاجتماعية، التي تظهر في داخلها، أو بالنظر إلى نمط المفاهيم التي تُنتجها، أشكالًا من التمرد يميل بعضهم إلى توصيفها على أنها تغيرات تقارب الثورات.

ويُنبّه بعض علماء الاجتماع إلى هذه الظواهر الناشئة في عالمنا، بوصفها الأدوات التي ستُشكّل مستقبل البشرية وشكل اجتماعها وأنماط الفكر السياسي الذي ستفرزه، بما يعني نهاية الأنماط السائدة، والتي -غالباً- ما كانت تُحصر في إطار نمطين من الأفكار والتوجهات، النمط الواحدي الذي ساد بعد إعلان سقوط الشيوعية، والذي تبنته الولايات المتحدة الأميركية والغرب، بوصفه الشكل الأفضل لحياة الشعوب، والنمط المضاد الذي تمثّل بالمعارضة التي عبّرت عنها -في الغالب- منظمات وهيئات، سخّرت نشاطها ضد العولمة في أكثر من مكان من العالم؛ حتى في الغرب نفسه.

ويذهب علماء الاجتماع إلى عدّ هذا الأمر ظاهرة إيجابية، إلى حد ما، كونها تسمح بظهور أكبر للتنوع الفكري، ولديها طاقة تعبيرية لتمثيل الطيف المتنوع من الثقافات والقيم، بما يساهم في إغناء الفكر الحضاري الذي يواجه مأزق التجمد في قوالب وأطر وهياكل محدّدة، انتهت إلى الفشل الذريع في إنتاج قيم جديدة، بل إنها أصبحت أقرب إلى المحافظة التي تسعى إلى تكريس أوضاع معينة، ليس على مستوى الأفكار والقيم، وإنما -أيضًا- على صعيد التراتبية الاجتماعية داخل المجتمعات، وفي إطار النظام الدولي.

في هذا المناخ، ثمة سؤال خاص عن حالتنا السورية، إذا كان يُحتفى بتعبيرات هذه الظاهرة والاندهاش بها، لدرجة يمكن ملاحظة شرائح معبرة تؤيدها، مثل ظاهرة مرشح الرئاسة الأميركي دونالد ترامب، المعادي للأجانب، أو ظاهرة صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، بل وحتى السكوت عن ظاهرة الميليشيات الشيعية المنتشرة في المنطقة بكثافة، وعدّها “ثورة” على أوضاع مستقرة وجامدة، والاحتفالية بـ “الحراك الكردي” ومقاتلاته الجميلات، والنظر إليه على أنه يُشكّل “ثورة” على المألوف، لماذا تخرج الثورة السورية عن إطار هذه التصنيفات، ولماذا لا تُدرج ضمن إطار هذه الظاهرة، فعلى الرغم من طابعها الملحمي ومضمونها الثوري، إلا أنها لم تجد الصدى الملائم، لا في نتاجات علماء الاجتماع الذين رصدوا الظواهر الجديدة، واحتفوا بها، ولا لدى الرأي العام الغربي الذي اختفت أي علامات للتعاطف معها؟

ثمّة خلفيات مفتاحية تصلح لتفسير هذه الظاهرة، منها أن تأييد مثل تلك الظواهر لا ينتج عنه حصول استحقاقات، تتمثل بأكثر من الدعم المجاني، في حين أن أي دعم على مستوى الرأي العام، أو على مستوى صناع الرأي، سيؤسس لعامل ضغط على صانع القرار؛ لاتخاذ قرارات سيدفع ثمنها المواطن الغربي من دماء أبنائه، أو من ضرائبه التي يدفعها، في وقت يصل المجتمع الغربي إلى حالة الإشباع والملل من الالتزام بمثل هذه القضايا، بعد الغرق في مستنقعات الصومال والعراق وأفغانستان، والأزمة المالية الحادة التي عصفت بمجتمعات الغرب والشرق.

من جهة ثانية، يدمج الرأي العام الغربي الثورة السورية في إطار موجات ثورات الحرية التي اشتعلت في العالم، وخاصة في أوروبا الشرقية والربيع العربي، وجاءت هذه الثورة في نهاية هذا السياق، غير أن هذا السياق، في الحسابات العقلانية الغربية، لم يضف متغيرًا ذا أهمية إلى حياة الشعوب الغربية، بقدر ما أضاف إليها التزامات، تمثلت بهجرة أعداد هائلة من أبناء تلك المناطق وبحثهم عن فرص للحياة في أوروبا، ولعل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان انعكاسًا لانزعاج البريطانيين من اللجوء البولندي الكثيف لبلدهم، ومزاحمتهم على فرص العمل، وحصولهم على الإعانات من الضريبة التي يدفعها المواطن الأوروبي.

غير أن العامل الأهم في كل ذلك، قدرة الطرف الأخر على تصوير الثورة السورية على أنها جزء من حرب منسّقة على “حقوق الأقليات” في سورية والمنطقة، وبما أن طابعها إسلامي، بحسب الصورة التي وصلت إلى الغرب، فإنها حكمًا ضد القيم التي يناضل الغرب من أجلها، كحقوق الأقليات والمرأة والمثليين، وغيرها من القضايا التي طالما شغلت صناع الرأي في الغرب، وحفّزتهم على الدفاع عنها، وتشكيل رأي مساند لها في أوساط مجتمعاتهم.

أن يضاف شعب جديد إلى قائمة الشعوب المتحررة، أمر لم يعد له صدى مهم لدى الرأي العام العالمي؛ لأنه لا ينعكس -مباشرة- على المصالح الآنية للشعوب، ولا يُحدث تغييرات على مسار حياتها الذي يشغل يومياتها ويستغرق بتفاصيل الضمان الصحي والاجتماعي والعمل المستدام، بل العكس من ذلك، يعتقد كثير من الناس أن الأنماط الجديدة من التمرد، قد تحمل فرصًا وتغييرات أهم، ويكفي أنها تنطوي على تحديات للوضع السائد واحتمالات تغييره، بما قد ينعكس على شكل فرص ومكاسب جديدة، ألا يفسر ذلك سبب وجود انبهار في الغرب بشخصية فلاديمير بوتين، ثم ألا يفيد تحليل نمط الخطاب الذي يوجهه رأس النظام السوري عبر مقابلاته إلى الغرب، ومحاولته اللعب على هذا الوتر. أما الثورة السورية، فإنها من نمط التغيرات التي لن تُحدث فوارق مهمّة في حياة الشعوب؛ لذا فإن الاهتمام ينصب غالبًا على تداعياتها، إما على شكل استثمار من بعض التيارات السياسية الأوروبية؛ لتحسين صورتها الانتخابية، مثل اليمين المتطرّف، أو على شكل جهد إدماج المهاجرين في المجتمعات الأوروبية، محاولة توجيه طاقاتهم بما يعود بالمكسب إلى تلك المجتمعات.




المصدر