العمل الثقافي السوري في سنوات الجمر
16 تشرين الأول (أكتوبر)، 2016
سلام الكواكبي
في سبعينيات القرن المنصرم، جرى الحديث في مجلس سياسي، يضم أهم الفاعلين المفروضين على مؤسسات الثقافة التي كانت قائمة في سورية، عن استقدام فرقة للموسيقا الكلاسيكية من الاتحاد السوفياتي “الصديق”، أي بتكلفة تكاد تكون منعدمة؛ فكان لرئيس الجلسة رأيه في الموضوع، بعد أن أسمعه أحد المشاركين مقطعًا من عزف هذه الفرقة، حيث أشار إلى أنها أصوات ضجيج، قادرٌ هو أن يصدرها بضرب الطاولة بيده، أو بعضو آخر من جسده (…)، تم تجاوز الموضوع؛ لأن الذائقة الفنية لصاحب الأمر والنهي كانت صارخة وصريحة إلى حد البذاءة، وبعدها بسنوات قليلة، أراد أحد أولياء الأمر -في مدينة سورية كبرى- أن يهدم الأسواق القديمة “المتسخة” و”الآيلة للسقوط”، فتصدت له ثلّة من المثقفين الغيورين على النسيج العمراني لمدينتهم؛ فما كان منه إلا أن نعتهم بالخيانة، وبالعمل لصالح جهات أجنبية.
وفي فرصة أتيحت لي، لإدارة مؤسسة ثقافية اجنبيه صغيرة، قمت بتنظيم نشاط فكري وبحثي وفني، حاولت أن تتجنّب الخوض المباشر في المحظورات العديدة، ولكنها لم تنجح؛ ففي إحدى المناسبات، قمت بدعوة أستاذ فرنسي في الفنون الجميلة؛ ليتحدث عن المرحلة المغاربية في أعمال الرسام الفرنسي هنري ماتيس (1869 ـ 1954)، حيث استعرض الأستاذ أعمال الفنان المذكور من خلال عرض الشرائح الضوئية التي تمثّل تركيزه على الطبيعة الصامتة خلال هذه المرحلة؛ فسألني العنصر المولج بكتابة التقرير الأمني عن فحوى الموضوع، فأجبته بقليل من المزاح “الأخوي” بأنه، وبما أن الشرائح الضوئية تعرض لأشكال مرسومة من الصحون الممتلئة بالفاكهة والكؤوس الممتلئة بالنبيذ، فالمحاضرة -طبعًا- هي عن الطبخ؛ فما كان منه إلا أن ذيّل تقريره بأن المحاضر كان يتحدث عن الطبخ، وكان الحضور مكونًا من عدد من مثقفي المدينة المهتمين بالطبخ (…)، واعتقدت بأن الأمر انتهى عند هذه المرحلة/ المزحة، وإذ بي، وفي اليوم التالي، اضطر لاستقبال رئيسه في القسم المختص، والذي لامني على استهزائي بفهم عنصره الميمون، ليضيف قائلًا: “يا سيدي، عناصرنا ليسوا بثقافتي أنا ولا بثقافتك أنت، فكن متساهلًا أكثر في المرة المقبلة”. حينذاك، هالني الخطب، كما يقول القدماء، وسألته عن سر اهتمامهم الشديد بهذا النوع من المحاضرات “الفنية”، فأتاني الجواب القاطع المشكك في مكان استضافتي لضيوفي. فعندما أكدت أنهم في الفنادق المتعارف عليها، ختم محدثي استعراضه الثقافي العالي المستوى بالقول: “ولكننا بحثنا ولم نجد هنري ماتيس في أي منها”.
في مناسبة أخرى، قمت بعرض فيلم وثائقي، اشتهر في بدايات الألفية الثانية، عن إعادة توطين الدببة في جبال البيرينيه الفرنسية، وكان الفيلم عبارة عن متابعة زوج من الدببة خلال اكتشافهما لموطنهما الجديد. طبيعة ساحرة، وحيوانات تنغمس في المشهد، بعيدًا عن أي حمولة سياسية، ما عدا أهمية المحافظة على البيئة وعلى تنوع الطبيعة المحيطة بنا، وكما في المرة الماضية، لم أتوقع أن يُثير هذا العمل أي تحفّظ، خصوصًا أن العرض قد حصل على الترخيص “الأمني” اللازم لكل نشاط ثقافي أو فني، مهما صغر، في بداية العرض، جلس عنصرٌ من “إياهم” إلى جانبي، طالبًا فكرة موجزة عن الموضوع، فلما أجبته بأن يتابع العمل، ويكوّن فكرته الخاصة به، أجابني بالقول: إنه لا يجيد الفرنسية، ففاجأته -بدوري- بالقول بأن الفيلم شبه صامت، إلا من أصوات الطبيعة وهمهمات الدببة، وأضاف قائلا: “وماذا عن الحوار؟” ليعقّب بابتسامة صفراء خبيثة: “لا تحدثني عن السيناريو، فأنا أعرف الفارق بين الأمرين (…)، ولكنني أريد أن اعرف الحوار؛ لأتبين إن كان يحمل مضامين سياسية”. فما كان مني إلا أن أجبت بحدة: “حوارنا هو حوار طرشان، أما حوار الفيلم فهو حوار دببة”.
قصص يمكن لها أن تملأ مجلدّات عن طريقة النظر إلى، والتعامل مع، الثقافة وحواملها، مهما اختلفت ومهما تنوّعت في الزمن الماضي القريب، حيث تحوّلت المراكز الثقافية إلى منصّات خطابية، تتغنى بالقائد المفدّى، أو تعرض لأمور ما ورائية، لا علاقة للثقافة وللعقل بها، وتساهم -من حيث تدري حتمًا- في تدعيم الظلامية الفكرية، وصار الحديث في الثقافة كالحديث في الممنوعات، موجّهًا ومراقبًا وممنوعًا في كثير من الأحيان، ومن استطاع أن يشق طريقه في كثبان الرمل المحيطة بكل أنواع الإبداع، فقد كان يتحلى بالشجاعة والصبر والمثابرة، كما انتشرت أساليب الرموز التي لجأ إليها المبدعون في كل مجالات الثقافة والتعبير الإبداعي.
كتاب “عن العمل الثقافي السوري في سنوات الجمر”، الذي أصدرته “مؤسسة اتجاهات لثقافة مستقلة”، هو محاولة جريئة لاستعراض قضية الثقافة في إطار الأوضاع الكارثية التي تعيشها سورية والمنطقة المحيطة بها، وهي إجابة تمهيدية عن أنجع السبل للخروج مما جرى وصفه –جزئيًا- في الأعلى، وأسّس لفعلٍ ثقافي يعاني من مؤسسات تتنازعها عوامل الخوف والاستقطاب والتكميم، وغالبًا ما يتحاشى الباحثون -في فترات الثورات والأزمات والحروب- الحديث عن الثقافة، دورها وتأثيرها واستخداماتها العديدة؛ فهم غالبًا ما يقتصرون في معالجاتهم على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمجموعات وطنية أو اثنية أو دينية محددة، كما أنهم يتطرقون إلى العوامل الإقليمية والدولية وتأثيراتها المتنوعة على ساحة الأحداث. وعلى الرغم من وجود جهد مشكور في دراسة الأبعاد الاجتماعية والتربوية والتعليمية -كما الإعلامية أحيانًا- إلا أن دور الثقافة كحامل أساسي لمفاهيم جمعية وتآلفية وتوعوية، ما زال مغبونًا في المعالجة والتحليل.
مبادرة “اتجاهات” الشجاعة، في خوضها هذه التجربة، تُعزّز من الأهمية المُغفلة للموضوع. وهي تُعيد الحوار والنقاش، النخبوي كما الشعبي، إلى موضوع مهم كالثقافة، إلى واجهة العمل الفكري بحثًا وتحليلًا. وهي في هذه المبادرة/ المحاولة، تفتح الباب أمام تجربة جديدة عربيًا؛ فإضافة إلى استعراض منهجي وموثٌّق للحالة القائمة -قبل وإبّان الأوضاع الجارية- فالكتاب الذي يحتوي ثلاثة أبحاث غنية المحتوى ورفيعة التحليل، يجيب -بتواضع محمود- عن كثير من الأسئلة المطروحة، سوريًا وعربيًا، حول دور الثقافة وأثرها المهمين.
ومن خلال التعرّض لدور الثقافة والفنون في تحقيق المصالحة والسلم الأهلي، تستبق راما نجمة، استعراض الحالة القائمة بالتطرق إلى بعدٍ جديدٍ إيجابيٍ، مُعرّف به حديثًا، في ما يتعلق بدور الثقافة والفنون في إطار تسوية المنازعات، أو تحقيق المصالحات في مجتمعات تعرّضت لإصابات جسيمة في تلاحم نسيجها وتآلف مكوناتها، لأسباب ذاتية وموضوعية، وهي تستعرض بعمق تجارب عدّة، منها ما نجح، ومنها ما لم يُثمر عن تفعيلٍ حقيقي لدور الثقافة والفنون في هذا الإطار. ومن خلال الاعتماد على المبادئ الرئيسة لأهم المدارس في هذا الحقل، تتطرٌّق الدراسة، بأسلوب سلس، إلى أهم أدوات العمل لإنجاح هذه الطرائق الحديثة، وتستعرض إمكانيات تطبيقها في الحالة السورية تحديدًا، آخذة في الحسبان التركيبة المجتمعية والثقافة الجمعية والحالة القائمة.
كما تعرض ماري الياس، الأليات الثقافية والإنتاج الثقافي في فترة الأزمة، في كل من سورية والعراق ولبنان، فمن خلال استعراض الواقع الثقافي والفني القائم في كل بلد، آخذة في حسبانها الخصوصيات التي تميز واقعًا عن آخر، تجهد الباحثة في تقديم المادة اللازمة والضرورية؛ لفهم وتحليل الحالة الثقافية التي ترافق أزمات هذه البلدان، والتي تتطور بطرق مختلفة، ولكن تأثيراتها في المجال الثقافي والإبداعي تحمل عديدًا من التشابهات المثيرة للانتباه. وقد اعتمد إعداد الدكتورة الياس على هذا الملف المتكامل المتعلق بالبلدان الثلاثة، على فريق بحثي متمكن، اتبع منهجية موحدة.
في القسم الأخير، وبعد أن استفاض الكتاب في عرض الواقع، وتحليل معطيات الأزمة من زاوية الثقافة والفن، كما بحث في استعمال هذه الحوامل في المصالحة، وبناء السلم، تقوم مجموعة من الباحثين في “المركز السوري لبحوث السياسات” بتشخيص الأوضاع الثقافية قبل 2011، وفي أثناء الحَراك في كل تقلباته وتطوراته وتحولاته. ومن خلال بحثها عن تطوير الهياكل الثقافية في سورية، تعمد هذه المجموعة إلى وضع منهجية عمل تساعد في تعرف محددات السياسة الثقافية. ومن خلال مبدأ المحافظة على المؤسسات، تعرض الدراسة أساليب تقويم عملها، أو إعادة هيكلتها؛ بحيث تكون روافد إيجابية في عملية إعادة البناء، بمختلف أبعادها.
إن الحديث عن سياسات ثقافية يستدعي جدلًا، يكاد يكون صعب المخاض، بين مؤيدي المحافظة على دور المؤسسات العامة في العمل الثقافي، والداعين إلى التحرر الكامل من قيود المؤسسات التي يعدونها جزءًا أساسيًا من تقييد الإبداع. والليبرالية المتطرفة التي تجد في الأنموذج الثقافي الأميركي مثالها، تعد أي دور للدولة في العمل الثقافي هو دورٌ مُقيِّد، ولا يعوّل عليه في بناء مناخ حر للإبداع وللتعبير. وتصل بعض الاقتراحات -في إطار الدعوة إلى تحرير الثقافة والفن- إلى الدعوة لإلغاء وزارة الثقافة. وهنا، يغلب صوت العقل الثقافي القائم على وعي شامل، من غير الضروري أن يكون مؤدلجًا، ولكنه يتمسك بدور الدولة، دولة القانون الشرعية، في رسم السياسات الثقافية أو المساعدة على تأمين متطلبات هذه العملية. كما أن النظر المُعقلن في دور الدولة الثقافي، في دول متصدرة للمشهد الثقافي العالمي، كفرنسا مثلًا، يدفع إلى الميل الواضح والصريح إلى ترك الحيز الثقافي “ينعم” بالدور الإيجابي للدولة، في إطار مشاركة مجتمعية شفافة وواضحة. ومن المفيد الإشارة إلى أن بعض العمل الثقافي يحتاج مساندة واضحة من الجهات العامة، في ظل تفشي أخلاقيات اقتصاد السوق، وعدم وجود اهتمام “سوقي” له، والأبداع في الفكر وفي الفن ليس بالضرورة متمكنًا بذاته من المحافظة على استمرارية العاملين فيه.
هذا الجدل المرتبط بدور الدولة، يلازمه دائمًا جدل أكثر تعقيدًا وأكثر تلغيمًا، وهو الذي يتعرّض للتمويل الأجنبي للعمل الثقافي؛ فالدعم الأجنبي -وغالبًا ما يكون غربيًا- يحمل في طياته للناقدين حنينًا مرضيًا إلى لغة التشكيك والتخوين، فإن ابتعدت الأجهزة الرسمية عن تبني مثل هذا الخطاب في مرحلة ما، سنجد حتمًا من يتبناه من الجهة المدنية؛ وحتى من بعض العاملين في الحقل الثقافي، ويكفي استعراض شامل وغير مؤدلج، مرة أخرى، لتجارب الآخرين؛ لنصل إلى محصلة تربط نوعية الاستفادة بمستوى الوعي. ولقد أوضحت هذه التجارب قدرة أصحاب المشروع الثقافي على تحديد أهدافه ومنهجيته تحديدًا يستطيعون من خلاله إقناع الداعم بصواب مسارهم، دون أن يكون له أي دور في تعديله.
وأما دور القطاع الخاص، فيبدو من خلال الدراسات المختلفة، بأنه محدود وسيحافظ على محدوديته؛ لأن تطوره مرتبط بتطور مفهوم المسؤولية الاجتماعية الذي يعاني من ضعف بنيوي في مختلف المجتمعات العربية، ومتى ترسّخ هذا المفهوم، يمكن -حينذاك- توقع الشيء الإيجابي النسبي من دور القطاع الخاص. أما في الجانب الربحي، فالمنتج الثقافي ليس جاذبًا لرؤوس الأموال؛ حتى في أكثر الدول تقدمًا، لذلك؛ لا يجب انتظار كثير إلا في حالة المؤسسات الثقافية الربحية، صغيرة أو متوسطة الحجم.
يصدر هذا الكتاب الجامع لهذه البحوث القيّمة في مرحلة تتوالى فيها مشروعات نظرية وبحثية عن عملية إعادة البناء المؤسساتي والاقتصادي في سورية، ويمكن عدّ هذا العمل بمنزلة الإضافة الضرورية إلى كل هذه الدراسات التي، وكما أشرت في البداية، تجنبت غالبًا الخوض في المجال الثقافي والفني؛ لرسوخ اعتقادات خطأ تعدّ الثقافة والفن ليسا من الأولويات في مرحلة الخروج من الأزمة، أو مرحلة إعادة البناء. ويظهر -بوضوح وجلاء- من خلال قراءة هذه الصفحات أن إهمال الحوامل الثقافية -في أي مجتمع- هو إهمال لاكتمال عملية البناء والتشكيل، خصوصًا في مجتمعات متنوعة، كانت إدارة تنوعها من أسوأ الإدارات في العالم، وأدت هذه الإدارة إلى تفتتها وتناحرها وتشرذمها.
إن عبارة “الحرية” هي نبراس كل عمل ثقافي وفني، وهي القاعدة التي يجب أن يستند إليها كل أبداع في مرحلة إعادة البناء المادي والمعنوي، ولم يغب عن بال القدماء ما لهذا الحامل المعنوي من قيمة وأثر، كما قال عبد الرحمن الكواكبي، في نهاية القرن التاسع عشر: “أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات، مستثنية القذف فقط، ورأت أن تحمل مضرة الفوضى في ذلك خير من التحديد؛ لأنه لا ضامن للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد، يخنقون بها عدوتهم الطبيعية، أي الحرية”
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]
[/sociallocker]