برزخ بين حياتين
16 تشرين الأول (أكتوبر)، 2016
صبر درويش
تبدو أعمال التشكيلي السوري، سهف عبد الرحمن، وكأنها سلسلة لا تنتهي من الوجوه، وجوه يكسوها الذهول، وهي ترنو إلى عالم يحتفي بالصورة أكثر مما يفعل حيال موت أصحابها، وجوه تحمل أسئلة أكثر مما تسعى إلى تقديم إجابات، وجوه لأطفال، وأخرى لنساء ورجال، تعلوها طبقة خفيفة من الضباب، وكأنها تريد أن تقول: نحن هنا على الرغم من أننا لم نعد كذلك.
فككتِ الحرب التي يقودها نظام الأسد الأسرَ السورية وأواصر العلاقات الاجتماعية بين السوريين، وغيب الموت أو الاعتقال أو حتى الاختفاء الآلاف من الأفراد، وترك ندبة في حياة أسرهم، وفراغًا كان من الصعب ملؤه.
في إحدى لوحات سهف، سنجد قبرًا فارغًا، وإلى جانبه جثة شخص مسجى، لا نعلم -بالضبط- إن كان طفلًا أو رجلًا، وعلى يسار اللوحة تنتصب امرأة تسيل قطرات من الدم، أو ربما الدمع من عينها، إلا أن نظرتها لا توحي بحزن، بقدر ما توحي بالغضب، الغضب من فراغ بات من الصعب التعامل معه؛ حتى بأدوات الأساطير التي تملأ الفراغات عادة بأوهام تستريح لها الروح.
تحتشد لوحات سهف بالشخوص، وبالوجوه الكالحة، ولا شيء يفرق بين الأحياء والأموات سوى لمعة خفيفة في عيون من تبقى من الأحياء، وكأن سهف يريد أن يخبر العالم بأن المساواة تمت في سورية بين الأحياء والأموات، وأن آلة الحرب، قتلت، وتعد من تبقّى بمزيد من الموت، ولا يفعل الأحياء -وفق هذه المعادلة- سوى انتظار مصيرهم المحتوم.
تجهد أعمال سهف إلى توثيق ما يجري في سورية، والقبض عليه بأدوات الفن التشكيلي، فتتحول أعماله إلى ما يشبه الوثائق، ويكاد المرء أن يعثر، في تلك الوجوه المكللة بالبياض، على صور أحبابه الذين غُيّبوا، أو أنهم استبدلوا حضورهم الواقعي بآخر مجازي، بينما يقول عبد الرحمن واصفًا هاجسه: “لا أعرف -بالضبط- كيف أصف ما أفعل، إنني أطارد أسئلة، وأطرد صورًا وذكريات، هاجسي الوحيد هو أن نصنع نهاية للألم البشري الجليل”. إلا أن ذلك يبدو بعيد المنال!
يتشارك أغلب شخوص عبد الرحمن الحياة والموت في الوقت ذاته، ويتضاءل الفارق بينهما؛ حتى يكاد ينغلق. الشخوص كلها ترتدي الأكفان، الأحياء منهم والأموات، والوجه الواحد منها يحمل وجهين أو أكثر، واحدًا امتصه الموت، وآخر تبدو عليه ملامح الغضب والسؤال، فمن قال: إن الأموات لا يغضبون، ولا يتساءلون؟!
يختلف الموقف بين المتلقي وبين الفنان، وتمتد مسافة تفصل بينهما، وفي الوقت الذي يقول فيه عبد الرحمن بأنه لا أحياء في لوحاته، وكل شخوصه موتى، يرى المتلقي صورة مغايرة لذلك، فيلمح، وعلى الرغم من الأسى، خيط حياة تعكسها لمعة في العيون تارة، وحركة لفم أحد هؤلاء الشخوص، يعبر فيها عن اعتراضه على ما يجري تارة أخرى. يقول عبد الرحمن: “لا يوجد أحياء في لوحاتي. إنني أرسم البرزخ، تلك اللحظة النادرة بين الحياة والموت؛ أحاول -جاهدًا- أن أعرف ما الذي يداهم الرأس عندما يتخثر الزمن، وتتحول سنوات العمر إلى لحظة، تلك اللحظة التي لا أستطيع أن أجزم بكنهها هل هي قاسية، مؤلمة، مريحة؟ أعتقد أن الحقيقة التي طالما بحثنا عنها ماهي إلا كنه هذه اللحظة”.
طرأ على الفن التشكيلي السوري تغيرات كبيرة، منذ انطلقت ثورة السوريين في آذار 2011، وحدثت تحولات فرضتها معطيات الواقع السوري الذي ازداد تعقيدًا وشحنًا، على مرّ الوقت، ولم يكن الفن التشكيلي بمنأى عن هذه التحولات التي طالت كل شيء في سورية، بدءًا بالأفراد ووصولًا إلى تعبيراتهم عن ذواتهم وتصوراتهم حول حياتهم ومستقبل بلدهم، إلا أنه يصعب اليوم التحديد بدقة الاتجاه الذي ذهب فيه الفن التشكيلي السوري وأفق تطوره، وبحسب رأي بعض الفنانين السوريين، تبدو العلاقة في غاية التعقيد بين ما يجري في سورية اليوم وأثره في تطور الفن التشكيلي، تحديدًا عند جيل الشباب من السوريين. وهي ملاحظة ليست خاصة بالحالة السورية، بقدر ما هي ملاحظة عامة، تعكس طبيعة العلاقة بين الفن من جهة، وصلصال عمله من جهة ثانية. يقول الفنان السوري عاصم الباشا: “سأجاري الصفاقة لو ادّعيت أنني مطّلع على كل ما يُنتج من تشكيل في ظلال مأساتنا الطويلة. أظنّ أن الأمر يحتاج لخميرة مديدة المفعول، وربما كان الوقت باكرًا؛ لنصادف أعمالًا تحاول احتواء الألم، من دون أن تتلطّخ بالإعلان في قشورها. للزمن رأي، قد يقوله على لسان فرد أو مجموعة”.
وأيًا يكن الأمر، فإن عديدًا من التشكيليين السوريين يحاولون القول، وهي محاولات تندرج -بطبيعة الحال- في سياق السيرورات التي يخضع لها السوريون عمومًا. وبقدر ما تبدو هذه المحاولات جادة في رغبتها في القول، إلا أن خطر الوقوع في فخ المباشرة على حساب التخييل، يبقى حاضرًا في سيرورة هذه التجربة ذاتها. وبالنسبة لعبد الرحمن، ينظر إلى العلاقة بين التشكيل السوري، وما يجري في محيطه من أحداث بطريقة تتقارب مع رؤية الباشا، يقول: “يتأثر الفن التشكيلي بطريقة مختلفة عن باقي الفنون، إنه سريع الالتقاط، بطيء الاستجابة؛ لأنه يستبطن الحدث والواقع بعمق؛ ليعيد انتاجه كأسئلة وعلاقات ومواقف. لا شك في أن الصدمة التي تلقاها المشهد الثقافي بأثره، صدمة قوية، ولكن لم يزل باكرًا الحديث عن استجابات فنية عميقة، وترقى إلى مستوى التاريخي، إنها مجرد ردود فعل بصرية”.
يقف الفن التشكيلي على مقربة من الحدث، وفي كثير من الأحيان يدخل في أعماقه وتفاصيله، ويبتعد عنه مسافة، تتيح له أن يعيد إنتاجه بأدوات العمل الفني، ويبقى الأمر يدور حول كيفية رواية الحكاية السورية بأدوات جمالية لا تقدم أسئلة، كما لا تسعى إلى تقديم إجابات، بقدر ما تسعى إلى رسم الفراغ، وإعادة وضعه في المكان الذي يليق به.
يقول عبد الرحمن: “أعتقد أن الفنان التشكيلي هو الأقرب إلى البحث عن روح الأشياء وقوانينها. إنه لا يرى في الموت جنازة، ولا يرى في الجريح دمًا وألمًا، إنه يرى –دومًا- من زاوية لا يشاركه أحد فيها؛ هناك حيث يمارس عزلة المشاهدة والسؤال”.
[sociallocker] [/sociallocker]