on
إذلال السنية العربية من حلب إلى الموصل
وتمثل الحاضرة التاريخية السنية الممتدة من حلب إلى الموصل ميدانها المادي ومجالها الرمزي، وتتخفى مشاريع الهيمنة والسيطرة والحرب تحت شعار “الحرب على الإرهاب”.
فالولايات المتحدة تسعى في الموصل للحفاظ على صيغة عراق ما بعد الاحتلال وروسيا، تعمل في حلب على تأسيس كيانية سورية جديدة، وإيران تحلم بخلق فضاء جيوسياسي فارسي شيعي من طهران إلى بيروت مرورا ببغداد ودمشق، والأكراد يطمحون بدولة كردستان الممتدة، وتركيا تسعى للتوسع في مجالها الجغرافي التاريخي القريب، وإحياء القومية التركية والأنظمة العربية مرتعبة من قيام سردية سنية منافسة.
هكذا، فإن خطر تنظيم الدولة الإسلامية الذي يواجه تحالفا كونيا لاجتثاثه، كان منذ البداية لا يستند لمجرد كونه حركة جهادية إرهابوية، بل لأنه مثل إيديولوجية احتجاجية سنية غاضبة لما آلت إليه أحوال العرب السنة في المنطقة، من إقصاء وتهميش وإذلال بعد نهاية الحرب الباردة، ومرحلة احتلال العراق، وحقبة تدمير الانتفاضات العربية.
فتنظيم الدولة الإسلامية بإعلانه إعادة تأسيس خلافة إسلامية سنية لم يكن مجرد حركة جهادية متطرفة بأهداف محدودة، ولم يتمكن من خلق جاذبيته وتجنيد آلاف المقاتلين السنة العرب والأجانب بفضل قدراته التنظيمية ودعايته السياسية فحسب، بل إن معظم أنصار ومؤيدي الدولة الإسلامية في العالم الإسلامي لا يتوافقون مع رؤيته الإيديولوجية الدينية المتصلبة وطرائق حكامته الفظة وأساليبه وتكتيكاته العسكرية المرعبة.
وبهذا أصبح تنظيم الدولة الإسلامية خيارا اضطراريا لأجيال شابه درعا واقيا لهوية سنية مهددة في وجودها ومستقبلها.
خيارات تنظيم الدولة الإسلامية كانت واضحة بالتشديد على الهوية، من خلال الارتكاز على موضوع الهوية السنية، وقد عمل في تحديد هويته على تبني أحد أشد الإيديولوجيات السنية الحديثة المرتكزة على المجال الإحيائي الهوياتي، بالاستناد إلى تراث السلفية الوهابية.
فقد قدم التنظيم نفسه هوياتيا ممثلا لإسلام سني ممتهن يتعرض لأخطار وجودية من أيديولوجيات ومذهبيات عديدة، الأمر الذي حدد استراتيجيته بأولوية قتال العدو القريب، وتركيز أولوياته على الأقرب فالأقرب، وصولا إلى العدو البعيد، فالأبعد.
ولذلك، فقد كان أكثر صرامة وعنفا مع من يطلق عليهم المرتدين والصحوات والخونة والعملاء من السنة، بهدف تنقية وتطهير مناطق حاضنته السنية، وهاجم الأنظمة العربية السنية، باعتبارها دكتاتوريات مرتدة تحارب الهوية السنية، وتوسع في قتال الشيعة باعتبارهم كفرة محاربين للإسلام السني، ومرتهنين لولاية الفقيه الإيراني الفارسي الصفوي، وتصدى للغرب الإمبريالي، باعتباره حلفا صليبيا حاقدا هدفه السيطرة وحرب الإسلام السني.
في ظل غياب مشروع عربي سني في المنطقة، قدم “أبو بكر البغدادي” نفسه بديلا موضوعيا، كما حاول قبل ذلك صدام حسين، فكلاهما يعبر عن إيديولوجية سنية غاضبة وطامحة، عملت على الإخلال بمنظومة سايكس-بيكو.
وكان ذلك بالنسبة لصدام عبر بوابة الخليج والكويت، أما البغدادي عبر يوابة الشام وسوريا. ولا عجب أن يحظى صدام واليغدادي بإعجاب أجيال سنية غاضبة، فقد حظي تنظيم الدولة الإسلامية بشعبيته كما حصل من قبل مع دولة صدام، ليس بسبب الإيديولوجية، إنما بعد تحقيق نجاح جيوسياسي باختراق المنظومة الدولية الحديثة حين قدم تنظيم الدولة نفسه أمينا على وحدة الأمة الإسلامية، عبر تحدي نظام الدول القطرية الذي وضع عام 1916، مع الترسيمة الاستعمارية على أيدي الديبلوماسي البريطاني مارك سايكس، ونظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو.
إذ رسخ التنظيم صواب نهجه العابر للحدود القومية على أسس دينية تعيد إلى الأذهان صورة الإمبراطورية الإسلامية، في الوقت الذي برزت فيه تكيفات سنية تتعامل مع واقع الدولة الوطنية.
وتقوم المعركة من حلب إلى الموصل اليوم في المجال الرمزي قبل الحيز المادي، للقضاء على جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية، الذي تحدى المنظومة الدولية من خلال سعيه إلى تأمين السيطرة المكانية على مساحات واسعة في العراق وسوريا، وخلق فضاء جيوسياسي جديد من حلب إلى الموصل، يعيد الوصل بين المدينتين كما كانتا تاريخيا.
فعلى الرغم من التقسيم الاعتباطي التعسفي لتركة السلطنة العثمانية، وفق اتفاقية سايكس-بيكو بين الحلفاء، إلا أنها لم تفصل الموصل عن حلب، فقد تم الفصل لاحقا في معاهدة “سيفر” 1920 باقتطاع الموصل وإلحاقها بكردستان، شرط موافقة أهلها بعد تنظيم استفتاء بهذا الخصوص.
إلا أن إعلان الانتداب على سوريا والعراق، كرس فعليا الفصل بين المدينتين، على خلاف ما جاء به سايكس-بيكو.
وخطورة أطروحة تنظيم الدولة الإسلامية تتجلى بمحاولة تصويب الأوضاع التي نتجت عن عملية التقسيم التي خضعت لها المنطقة خلال العقود الأولى من القرن المنصرم، التي أضرت بشكل رئيس بحلب والموصل وألحقتهما بدول مركزية جديدة في دمشق وبغداد، بعد اقتطاع أجزاء كبيرة من أريافهما، وحرمان المدينتين من منافذهما البحرية، فضلا عن الروابط السكانية المتجانسة للغالبية “السنية”.
سردية تنظيم الدولة الإسلامية حول إذلال السنية العربية لم تكن صناعة متخيلة، الأمر الذي لخصته افتتاحية العدد الأخير من مجلة “إيكونومست” بالقول: “ألق نظرة فقط على أنقاض منطقة الهلال الخصيب، وسوف يظهر لك نمط مقلق: من البحر المتوسط إلى الخليج العربي، يكون أولئك الذين يتحملون وطأة الحرب هم العرب السنة في الجزء الأكبر..
ومع أنهم يشكلون أكبر مجموعة عرقية، وأنهم ورثة الإمبراطوريات الأسطورية، فإن العديد من مدنهم العظيمة هي في أيدي الآخرين: اليهود في القدس؛ والمسيحيين والشيعة في بيروت؛ والعلويين في دمشق؛ وحديثا، الشيعة في بغداد”.
في عالم عربي سني مريض، داعب تنظيم الدولة الإسلامية أحلام أجيال من الشباب العربي السني الممتهن ببساطة فائقة، دون عناء للبرهنة على سرديته السنية، وبدا وحيدا يناضل في سبيل تحرير وانتزاع السيطرة على المدن السنية المختطفة، من خلال بعث العقيدة الجهادية طريقا وحيدا لاستعادة القدس من اليهود، وبيروت من المسيحيين والشيعة، ودمشق من العلويين، وبغداد من الشيعة، وصنعاء من الحوثيين، وسائر المدن العربية من الحكومات المرتدة، التي تتمتع جميعها بحماية ورعاية صليبية غربية.
وبدا أن تنظيم الدولة الإسلامية كإيديولوجية سنية إحتجاجية، تؤشر على أن الكيانات التي تشكلت في المنطقة بحسب الترسيمة الكولينيالية التي أنتجت الدولة الوطنية، توشك على الأفول، بعد أن فقدت قوتها المركزية، وأبنيتها العسكرية والسياسية والقانونية، وتآكلت شرعيتها التاريخية المصطنعة، وباتت تتجه نحو قناعات جديدة وتقسيم جديد.
فقد بعثت الاضطرابات في المنطقة أحلاما امبراطورية مكبوتة، فالأكراد يتطلعون لكرستان موحدة ممتدة، وإيران تبحث عن إرث الامبراطورية الفارسية، والأتراك ينشدون إعادة أجزاء الإمبراطورية العثمانية، أما الدولة الإسلامية، فهي حلم سني تاريخي من الخلافة الراشدة إلى الأموية، فالعباسية.
لا جدال بأن الموصل تبات مثل إيقونة للهوية السنية المقاومة للاحتلال الأمريكي، كما تمثل حلب إيقونة الهوية السنية المناهضة للاحتلال الروسي، وكلا المدينتين تتعرضان للقتل والتنكيل والانتقام والإذلال والتخريب.
ويبدو أن أمريكا وروسيا متكاملتان فيما يخص المسألة السنية، وخوض حرب إذلال السنة تحت شعارات الحرب على الإرهاب، إذ تشكل حلب رمزا لأبشع عملية إذلال، إذ تقوم روسيا بمهمة الحفاظ على النظام العلوي السوري، ويقوم حلفاؤهما الإيرانيون والشيعة بضرب الثوار السنة المحاصرين تحت ذريعة الحفاظ على سوريا المفيدة.
وهو الأمر ذاته الذي يحدث في الموصل، حيث تقوم أمريكا بحصار وإذلال السنة مع حلفائهم الإيرانيين ومليشيات الحشد الشيعي والأكراد، للحفاظ على الحكومة العراقية الشيعية تحت ذريعة الحفاظ على عراق ما بعد الاحتلال.
خلاصة القول، إن إذلال السنية العربية ماض بتدمير الموصل وحلب، لكن القبيلة السنية الممتهنة سوف تأخذ أشكالا أكثر عنفا وأشد تطرفا في المستقبل، ذلك أن سردية الاحتجاج السني من الشيخ صدام حسين إلى الرفيق أبو بكر البغدادي، تعبر عن حالة موضوعية لواقع عربي سني بائس، في محيط دولي وإقليمي معاد لطموحات وحقوق الأكثرية السنية في المنطقة، في لحظة تاريخية فارقة تشير إلى تفكك دويلات ونزاع إيديولوجيات وانشطار استراتيجات وانبعاث قوميات وهويات.
وهكذا، فإن فكرة الدولة الإسلامية السنية قد تختفي من العالم الواقعي، لكنها ستبقى في العالم الافتراضي كي تعاود ظهورها بصورة أخرى، ولكن بطريقة أكثر راديكالية، وأشد عنفا.