on
الاختفاء القسري في سورية مأساة إنسانية
عاصم الزعبي
جلست فاطمة، تحتضن طفلها ذا السنوات الخمس، في مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن، والتف حولها أطفالها الذين أتعبهم اللجوء، والبعد عن الديار، لكن كل ذلك ليس مُهمًّا بالنسبة لهم مقابل أن يعرفوا مصير رب أسرتهم.
بدأت القصة في 2 شباط/ فبراير 2012، بخروج زوجها علي، من أبناء بلدة كحيل بريف درعا، إلى عمله في مؤسسة المطاحن بدرعا، ولم يعد بعدها إلى منزله حتى اليوم؛ ففي أثناء نقل مادة الطحين إلى المخبز الآلي في درعا البلد، أوقف عليّ من حاجز أمني تابع للنظام، وكانت المرة الأخيرة التي شاهده فيها زملاؤه في العمل؛ حيث اعتقله عناصر الحاجز؛ ليبقى -حتى اليوم- مجهول المصير، على الرغم من سؤال ذويه المتكرر عنه، دون جدوى.
ليست حالة عليّ هي الحالة الوحيدة في سورية، بعد اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011، ولكنها تُمثّل أنموذجًا قانونيًا لحالة الاختفاء القسري، الذي اتّبعته أجهزة النظام الأمنية أسلوبَ عمل لا إنساني في تعاملها مع المعارضين، وحتى مع كثير من الحياديين، لمجرد الاشتباه، أو تشابه الأسماء فحسب.
الاختفاء القسري، وتوصيفه القانوني
وفق المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، لعام 2006، فإنّ الاختفاء القسري هو “الاعتقال، والاحتجاز، والاختطاف، أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية، يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص، أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن، أو دعم من الدولة، أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته، أو إخفاء مصير الشخص المختفي، أو مكان وجوده؛ ما يحرمه من حماية القانون”.
كما نصت الاتفاقية في المادة الأولى منها على أنه:
1- لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري.
2- لا يجوز التذرع بأي وضع استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب، أم التهديد باندلاع حرب، أم بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أم بأي حالة استثناء أخرى؛ لتبرير الاختفاء القسري.
وقد عدّت هذه الاتفاقية الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية، بحسب المادة السابعة من اتفاقية روما، والتي نظمت عمل محكمة الجنايات الدولية، وحددت أركان الجريمة بأن “يقوم مرتكب الجريمة بإلقاء القبض على شخص أو أكثر، أو احتجازه، واختطافه، ….. إلى آخر ما جاء في نص المادة “.
نهج قديم
تعود ظاهرة الاختفاء القسري في سورية إلى حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، خلال فترة حكم حافظ الأسد، حيث اختفى في عهده ما يزيد عن سبعة عشر ألف مواطن سوري، معظمهم من مدينة حماة، واستمر هذا النهج وتضاعف بعد اندلاع الثورة عام 2011، وصار نهجًا، ولعب تغول الأجهزة الأمنية دورًا مهمًا في إخفاء كل من يعارض نظام حكم الأسد، استماتة منها للمحافظة على وجودها المرتبط بهذه العائلة.
اختفى آلاف السوريين قسرًا دون أثر، حيث تحتجزهم الأجهزة الأمنية التابعة للنظام من جهة، وبعض الجماعات المسلحة المختلفة من جهة أخرى، في مواقع سرّية، وأوضاع بالغة القسوة، ويتعرضون للتعذيب، وقد يواجهون القتل والموت من شدة التعذيب والجوع وانتشار الأمراض في تلك السجون.
تقول تقارير عديدة للمنظمات الحقوقية: إن آلاف الرجال والنساء؛ وحتى الأطفال، تعرضوا للخطف من الشوارع والمنازل وأماكن العمل، قبل أن يُنقلوا إلى سجون رسمية، أو مراكز اعتقال سرية، ومنهم من يبقى قيد الاحتجاز لفترات طويلة، دون الحصول على أي مساعدة قانونية أو الاتصال بأسرهم.
جريمة تعدد مرتكبوها
تعدّ الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد المتهم الأكبر في تنفيذ هذه الجرائم، واحتجاز العدد الأكبر من الضحايا، كما أن الجماعات المسلحة -على اختلافها- باتت تتبع هذا الأسلوب، وإن كان ذلك يتم على نطاق ضيّق، بالمقارنة مع ما تقوم به أجهزة النظام، وأشهر جريمة اختفاء قسري “نفذتها جماعة معارضة” هي اختطاف الناشطة الحقوقية رزان زيتونة ورفاقها في الغوطة الشرقية، والذين لا يزال مصيرهم مجهولًا.
تتفاوت التقديرات في أعداد المختفين قسرًا بين منظمة حقوقية وأخرى، فقد وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقرير لها بعنوان (الألم الممتد)، أصدرته في آب/ أغسطس 2016، حصيلة الاختفاء القسري في سورية بنحو 75 ألفًا، كان النصيب الأكبر للنظام بنسبة تصل إلى 96 بالمئة، فيما توازعت النسبة المتبقية الجهات الأخرى.
أما الهيئة السورية للعدالة الانتقالية، والتي تُمثّل جهازًا مستقلًا من أجهزة الحكومة السورية الموقتة، فقد كشفت عن وجود ما لا يقل عن ستين ألف حالة اختفاء قسري، بين مفقود ومعتقل ومقتول تحت التعذيب، واعتمدت في ذلك على أعمال التوثيق الجنائي للعديد من مراكز التوثيق خلال الثورة، ومن خلال تحليل البيانات، وإسقاطها على النصوص القانونية، والأركان التي ترسم هذه الجريمة.
لكن مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، يعتقد أن العدد الحقيقي لحالات الاختفاء القسري في سورية، لن يُعرف بالكامل إلا بعد انتهاء الصراع.
الجريمة مستمرة وعجز دولي
لا يزال الاختفاء القسري أداةً، تعتمدها أجهزة النظام الأمنية، كأسلوب لسحق المعارضة، على الرغم من مطالبة الأمم المتحدة، تلك الأجهزة بوضع حد لهذه الممارسات البغيضة، ويضرب النظام السوري -بعرض الحائط- مطالبات الأمم المتحدة؛ ما يدل على الفشل الذريع للمنظمة الدولية، وأجهزتها في تحقيق الحماية للسوريين من هذه الجريمة، من خلال وضع آليات قانونية وإنسانية لتحقيق هذه الحماية، مما أطلق العنان للنظام للاستمرار في ارتكابها دون أي عقاب.
ينتهك النظام السوري، وبعض القوى العسكرية الأخرى، القانون الدولي الإنساني، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، كما يتجاهلون حقوق الإنسان الأساسية للأشخاص الخاضعين لسيطرتهم، أو المحتجزين لديهم، ولا يمتثلون لالتزاماتهم بموجب القانون الدولي الإنساني.
لا تهتم فاطمة، ولا الآلاف ممن يعانون من هذه الجريمة، بما تنص عليه القوانين الدولية، وبتعريفها للاختفاء القسري، وبأحكامه، هم يفكرون بشيء واحد فقط، وهو ألا يفقدوا الأمل في عودة زوج، أو أخ، أو أب، أو ابن، لا يعلمون -حقيقةً- إن كان لا يزال حيًا أم لا.
بعد عامين ونصف، قضتها فاطمة وأطفالها في مخيم الزعتري، عادت إلى منزلها في درعا، تترقب كل يوم عودة زوجها، في مأساة لم تُكتب لها نهاية بعد.
المصدر