حرب الرواتب والتضخم في سورية


علي العائد

يَعُدُّ الدولار الأميركي في هذه الأيام حوالي 540 ليرة سورية، بينما قد يصل راتب الموظف الحاصل على شهادة جامعية إلى 66 ألف ليرة (سقف الراتب)، أي 122 دولارًا أميركيًّا (جريدة الجماهير 21 كانون الثاني 2016).

سقف راتب الفئة الأولى من الموظفين في آذار 2011، كان 50 ألف ليرة، بحسب الجريدة نفسها، أي أكثر من ألف دولار أميركي عند سعر 47.5 ليرة مقابل الدولار.

بالطبع هذا سقف الراتب الذي قد لا يصل إليه وزير الآن (!)، كما لم يصل الوزير إلى سقف الراتب في عام 2011، إذا لم نتحدث عن البدلات وطبيعة العمل… إلخ.

راتب موظف تدرج في الوظيفة 15 عامًا كان عند بداية الثورة يعادل 16 ألف ليرة (337 دولارًا)، ويعادل الآن حوالي 30 دولارًا.

ما نريد الوصول إليه ليس أن هذا الرقم لا يكفي شخصًا واحدًا لمدة يوم، وهو يكفي أكثر من ذلك في أوضاع سورية الحالية، بل الوصول إلى أن من يقبض راتبًا بالدولار، أو من حول مدخراته وسيولته إلى الدولار، انتعشت أحواله الاقتصادية؛ حتى أكثر مما كان يتمتع به في عام 2011 وما قبل.

الفقر المُعمّم على السوريين الآن، وقبل 2011، هو ما يتشارك فيه السوريون الذين يقبضون رواتبهم وأجورهم بالليرة السورية، أما اقتصاد الحرب، فقد “أفاد”، بطريقة ما، أصحاب الأموال الذين لم يغامروا بتجارة العملة، وكمنوا للأزمة بأموالهم “اللي تحت البلاطة” بعد تحويلها إلى الدولار، أو الذهب، أو عملات أخرى شبه ثابتة القيمة.

هنالك قلة تعمل في منظمات دولية، أو صحافيون يكتبون لصحف غير سورية، انتعشوا من انخفاض قيمة الليرة. يستطيع هؤلاء توفير ثلث، إلى نصف، أجرهم، في هذه الأيام، دون أن يتنازلوا عن مستوى العيش الذي اعتادوا عليه.

مثلًا، تستطيع عائلة دخلها ألف دولار، ومكونة من خمسة أشخاص، أن تنفق 180 ألف ليرة على السكن والمأكل وفواتير الماء والكهربا والهاتف الثابت والنقال، وعلى المواصلات واللباس مبلغًا موازيًا، أما ما يتبقى (180 ألف ليرة)، فيمكن أن يتم توفيره، أو إنفاقه في مسالك تعد إسرافية، كلما زادت، في أوضاع الأزمة الاقتصادية التي يعيشها السوريون اليوم.

تلك الأرقام الافتراضية تختلف بحسب عادات الأسرة في الإنفاق، وهنالك من ينفق أقل من ذلك، لكن ليس بكثير، وهنالك من ينفق ضعف ذلك، بحسب حجم دخله، ومدخراته.

كذلك يختلف الإنفاق بحسب المدن السورية، كما هو الأمر دائمًا، فالحياة في العاصمة دمشق مكلفة أكثر حتى من حلب، ثاني المدن السورية، ومدن الجزيرة يعيش سكانها عادات مختلفة في الإنفاق عن المدن الحضرية الكبيرة، وقد يشبه الفرق في العادات الفرق بين الريف والمدينة عمومًا. كذلك يلعب الاقتصاد المنزلي عند الأسر دورًا في تخفيف حجم الإنفاق الاستهلاكي، فسيدة المنزل التي “تموِّن” في الصيف والشتاء تقتصد كثيرًا من النفقات، بينما تضطر بعض الأسر التي تعيش يومًا بيوم، سواء كانت فقيرة، أو غنية، إلى إنفاق مال أكثر إذا توفر لها ذلك.

راتب يعادل 100 دولار كان مزحة مضحكة في ثمانينيات القرن الماضي، تستوجب السؤال التعجبي: في الشهر! الآن هذا الرقم ليس سيئًا إلى تلك الدرجة، مقارنة مع الماضي، كون معظم الأسر صارت “زبونة” عند الهيئات الإغاثية، والمعونة التي توزعها منظمات تابعة للنظام، بتمويل من الأمم المتحدة تسند الـ ـ100 دولار، كما أن عددًا ليس قليلًا يتلقى مساعدة شهرية من أخ، أو أب، أو قريب، أو صديق، ممن يقبضون بعملات لم ينتهكها التضخم كدولار سورية.

وفي الأمر، هنا، مفارقة، لكنها ليست غريبة. على سبيل المثال، يستطيع أي عامل في السعودية إرسال ألف ريال (267 دولار) لأهله شهريًّا. هذا الرقم يعادل الآن 144 ألف ليرة، وهو دخل جيد يغطي معظم الحاجات الأساسية للأسرة؛ حتى لو لم تمتلك أي دخل، أو راتبًا، والرقم نفسه كان يعادل 13 ألف ليرة في عام 2011، أي أن المغترب لم يتحمل عبئًا ماديًّا إضافيًّا نتيجة التضخم في سورية.

هنا يمكن التطرق إلى مقاييس الأمم المتحدة في عتبات الفقر، فالفرد الذي يعيش بأقل من دولارين أميركيين في اليوم هو فقير، وكلما تناقص الرقم كان الفقر أشد.

بهذا المقياس، تحتاج أسرة مكونة من خمسة أشخاص إلى 300 دولار شهريًّا، للعيش على خط الفقر، ما يعني أن عجز موازنتها سقف مفتوح، بحسب أعمار أفراد العائلة وحاجاتهم الاستهلاكية والعلاجية (أطفال، شباب، كهول، أمراض مزمنة)، حتى يمكن أن تتضاعف حاجتها لصبح 600 دولار وسطيًّا.

الواقع ينفي ذلك، عمومًا، فـ 300 دولار تعادل 162 ألف ليرة، أما 600 دولار، فتعادل 324 ألف ليرة، وهي أرقام ليست في متناول معظم الأسر السورية.

لا يعني هذا التفكير بصوت عال التخفيف من المأساة السورية، بل التأكيد على أن الأزمة الاقتصادية الناتجة من حرب النظام على السوريين، وحرب المتدخلين إلى جانب النظام، وإلى جانب المعارضة المسلحة، كانت سابقة على الثورة، ففي عام 2013، نشرت الأسكوا (منظمة الأمم المتحدة لدول غرب آسيا) تقريرًا في 24 تشرين الأول 2013، يؤكد أن 18 مليون سوري يعيشون “تحت خط الفقر الأعلى” (أقل من دولار يوميًّا)، وأن 4 ملايين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى (أقل من دولارين يوميًّا).

يقول التقرير نفسه: إن من كانوا يعيشون تحت خط الفقر الأدنى كان، فقط، 200 ألف سوري، في عام 2010، ومع الشك في تواضع هذا الرقم، بحكم الواقع الذي كنا نعيشه، كان لدى هؤلاء الفقراء، بعددهم، وبدرجة بؤسهم المتزايدة، كل الأسباب لإشعال ثورة، كما حدث ويحدث الآن، بالأصالة عن أنفسهم، دون مطالب سياسية، أو حقوقية، أو طموحات ديموقراطية، فقط كانت تنقصهم الشرارة التي اشتعلت في درعا.




المصدر