شكرًا هولاند


حذام زهور عدي

لا الصحفيون المختصون وغير المختصين، ولا المحللون السياسيون، على اختلاف انتماءاتهم القومية واللغوية، ولا السوري المثقف أو البسيط، جميعهم أصبحوا يعرفون تمام المعرفة أن الولايات المتحدة الأميركية استغلت حاجة الناتو إليها وإلى أوامرها؛ فهمّشت -عمدًا- دور الاتحاد الأوروبي في السياسة العالمية، وبشكل خاص، في ما بات يُطلقون عليه “المسألة السورية”. أما روسيا، فمن نافل القول أن تتعمد تهميشه؛ إذ ليست أوكرانيا وحدها مثار صراع بينهما، إنما عقود من العداء، منذ انتصار الثورة البلشفية، واختلاف أنظمة حكم الدول الأوروبية الغربية عنها، ولاسيما ألمانيا التي تقاسمها السوفيات شرقًا بعد الحرب العالمية الثانية، وأميركا غربًا، وتوافق الكبيران” السوفيات والغرب” على وضع جدار برلين بينهما.

بعد أن تلاقت الدول الأوروبية الغربية على مراحل متعددة، مشكّلةً “الاتحاد الأوروبي”، ومع سقوط جدار برلين، عادت ألمانيا موحدة، وتفكك الاتحاد السوفياتي، وانتهى حكم الأيديولوجيا الماركسية، والتحقت معظم الدول الأوروبية الشرقية بالغربية، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي، وبدأ تعاون اقتصادي بين روسيا والاتحاد الأوروبي، في تلك البيئة التوافقية، يظهر بوتن بالعقلية القيصرية، والتربية الستالينية، يريد أن يُعيد “المجد”، ويقف ندًا للولايات المتحدة، عاملًا بنشاطِ لا يخفى على أحد، مُمعنًا في تهميش الدور التاريخي للاتحاد الأوروبي، وفرنسا بشكل خاص، بوصفها القوة الأوروبية الأكبر تاريخيًا، والأكثر استقلالًا عن الولايات المتحدة، والأشد تأثيرًا في الثقافة الديمقراطية، والتمسك بالقيم الأخلاقية التي تتيح لشعبها محاكمة سلطتها بتلك المعايير.

كان التهميش واضحًا جدًا في “المسألة السورية”، فقد أبدت ألمانيا وفرنسا اهتمامًا غير عادي بالثورة السورية وتظاهراتها السلمية، مع أن الولايات المتحدة كانت تشاركهما هذا الاهتمام، إلا أن أجندتها في التعامل مع ثورة الشعب السوري كانت مختلفة، إلى هذا الحد أو ذاك، فبينما حددت الولايات المتحدة هدفها بتبديل سلوك النظام دون إسقاطه، ولم تتحدث عما يُمكن أن تفعله في حال لم يتبدل هذا السلوك، كانت القناعة الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا أن إسقاط النظام هو آخر الدواء، فمثل هذا النظام غير قابل للإصلاح، وبالفعل فقد كان الحماس شديدًا عند السياسيين الفرنسيين، بعد استخدام الأسد للسلاح الكيماوي، وبدأت بارجتها بالتحرك قاصدة الشواطئ السورية؛ للاشتراك بقصف الأسد، وكان إحباطها شديدًا عندما تراجع أوباما عن موقفه باتفاق روسي يُخلصه من الإحراج، وأخبر وزير خارجية فرنسا -حينذاك- بكثير من الحزن الناشطين السوريين أن فرصة إنهاء الوضع السوري قد ضاعت؛ بسبب الموقف الأميركي، وهكذا شعر الفرنسيون -مجددًا- أن أميركا تتصرف وحدها، دون أن تحسب حسابًا لفرنسا وألمانيا حليفيها الغربيين الأقوى، وتجر معها إنكلترا، المتطابقة منذ عقودٍ مع مواقفها الديبلوماسية، ودول أوروبية أخرى هي الأضعف في ميادين التسلح، كما لاحظت غض النظر الأميركي، عن سياسة التهجير المتعمّد للسوريين الذي انتهجه النظام وحلفاؤه بإلقائه الكتل السكانية السورية في البحر المتوسط، على الشواطئ الأوروبية، وكأنه كان لا يُعاقب الشعب الذي ثار عليه فحسب، وإنما يُعاقب الدور الأوروبي ومواقفه السورية، المختلف عنه إلى هذا الحد أو ذاك، وخاصة الموقف الألماني والفرنسي، ومع أن فرنسا كان نصيبها من المهجرين الأقل، لكنها تلقت العقاب الأعنف من التفجيرات الإرهابية شديدة القسوة، التي تريد أن توصل رسالة إلى قيادتها السياسية تقول: ستفقد فرنسا استقرارها وأمانها، وسيسقط هولاند وحزبه، إن لم تتطابق مواقفها مع الاتفاقات الأميركية – الروسية.

أما ألمانيا، فقد بدأت بتعديل مواقفها بعد موجة العداء للمهجرين السوريين، والتي تراجعت حظوظ ميركل بسببها، هي وحزبها، في الانتخابات، وأصدرت قرارات تحد من المهجرين، وتُضيق عليهم ما كانوا يحلمون به، أما هولاند فرنسا، والذي تراجعت حظوظه الانتخابية أيضًا، فقد وصل الضيق من تهميشه الحلقوم، وأراد أن يُمارس مسؤوليته الأخلاقية، خاصة بعد مجازر حلب التي لا يُمكن لسياسي مسؤول أن يحتمل وزرها، إلا إذا كان فاقد الضمير والأخلاق والرؤية التاريخية لقضايا الشعوب كبوتن، كما أراد أن يُعيد للدور الفرنسي – الأوروبي حضوره في السياسة العالمية، ويجد مخرجًا من تهميشهم ذاك؛ فقدم مشروعه لوقف إطلاق النار في سورية عامة، وحلب بخاصة، لكنَ الفيتو الروسي قطع الطريق عليه، مُحاولًا إعادة فرنسا إلى التهميش مرة أخرى، وجاعلًا هولاند يقف وحيدًا متفردًا في الحماية الديبلوماسية لما تبقى من الشعب السوري.

هل كان هولاند يعرف مسبقًا بالفيتو الروسي ضد مشروعه المقدم إلى مجلس الأمن، وهل كان الأمر، كما صرَّح بوتن، أن فرنسا جرَّته لاستخدام الفيتو، وهل كان الموقف الفرنسي كلامياً فحسب، لا يُقدّم أو يُؤخر في الكارثة السورية، كما يقول إعلام النظام الأسدي وحلفاؤه؛ للتقليل من شأنه، ويجد -مع الأسف- أذنًا صاغية ممن يُحسبون أنصارًا للثورة السورية، وهل كان هولاند يهدف -من خلاله- إلى فك عزلة شعبيته واسترجاع مكانته الانتخابية، وهي تطرق الأبواب الفرنسية اليوم.

لكنَ آخرين لهم وجهة نظرٍ أخرى، وأنا منهم، يرون أن للموقف الفرنسي في مجلس الأمن نتائج سياسيةً مهمة؛ حتى لو لم ينل الموافقة، أو كان الرئيس هولاند يعرف مسبقًا -كما يُقال- بالفيتو الروسي، وعلى الرغم -أيضًا- من “البرازيت” الإعلامي الروسي – الإيراني – الأسدي.

ديبلوماسيًا وسياسيًا، استطاع عزل روسيا عن الإرادة الدولية بالرغبة في وقف المقتلة الحلبية؛ حتى أقرب حلفائها (الصين) لم يستطع مشاركتها في جرائمها الإنسانية، وأصبح التهديد بإحالة الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين إلى محكمة الجنايات الدولية ممكنًا، وهو موقف أخلاقي تاريخي بالدرجة الأولى؛ حتى لو كان كلاميًا، والكلام له قيمة سياسية لا يُستهان بها، فهو -على رأي الكواكبي العظيم- قد يكون اليوم صرخةً في واد، لكنه غدًا سيقتلع الأوتاد، وبخاصةٍ أن السيد هولاند أتبعه بموقفه من زيارة بوتين لفرنسا، وصعَد اتهامه لبوتين بالوحشية التي يستحقها، إن ما قاله في البرلمان الفرنسي تجاه بوتين جديرٌ بأن يُشكر عليه، ولا سيما أن الديبلوماسية الأميركية لم تواجه بوتين، بمثل هذا الوضوح، وكأنه عمليًا في العرف الديبلوماسي يعتذر عن قبول زيارته المعلنة لفرنسا؛ ما سبب ردًا بوتينيًا عنيفًا، يعكس فضيحته الأخلاقية التي يستمر في ممارستها في حلب، إضافة إلى ذلك، فالإعلام الفرنسي يستطيع الدخول إلى الشعب الروسي، والتأثير فيه أكثر من أي إعلامٍ آخر مخالفٍ للسياسة البوتينية.

أما نحن -السوريين- فعلينا أن نتقن عملية التحالفات، فنشجع كل من وقف معنا، ولو قيد أنملة، فكيف إذا كان الموقف أكثر من شبرٍ، وفي العرف الديبلوماسي قد يصل إلى متر، هل كنا نتوقع من فرنسا قصف الأسد والدخول في حربٍ مع روسيا وإيران، دون موافقة الناتو وزعيمته الأميركية.

كنتُ آمل من الجالية السورية في فرنسا، وفي باريس بخاصة، أن ترفع لافتات الشكر للرئيس هولاند، باللغات الفرنسية والإنكليزية والروسية والعربية، وتقف بها مع تحشيد سوري في أهم الساحات، وأمام السفارة الروسية والأميركية؛ لتدعم شعبية هولاند الفرنسية أمام المد اليميني المعادي لنا، من جهة، ولنوصل رسالة لكل مهتمٍ بالشعب السوري وكوارثه، أننا نرد على التحية بأحسن منها، وأننا نفهم جيدًا كيف نتعامل سياسيًا مع العالم، فنحن شعبٌ حضارته ستة آلاف عام، وليس بداة في صحارى العالم، كما يصورنا أعداؤنا.

شكرًا سيادة الرئيس هولاند، وكن واثقًا أن الشعب السوري لن ينسى لك هذا الموقف…




المصدر