في رسالة الأدب والفن ومسؤولية المثقف/ــة


جاد الكريم الجباعي

“عندما يسقط كل شيء، ينهض الأدب والفن”، لا لأنهما لا يتأثران بعوامل السقوط، ولا لأن كثرة من الأدباء والفنانين تبيع أرواحها للأمراء والسلاطين، وبعضهم يبيعها في سوق النخاسة، أو على موائد اللئام؛ فيصير أدب هؤلاء وفنهم علامة على السقوط، على نحو ما نتحدث عن عصور الانحطاط، بل لأن الأدب والفن عماد الحياة الروحية للإنسان، ولأن الأدباء والفنانين يبيعون أرواحهم للشيطان، مقابل المعرفة، واكتشاف أسرار الحياة وجمالياتها، وأسرار النفس الإنسانية وجمالياتها. وهذه تجارة لا يربح فيها سوى الإنسان؛ لأن معرفته ناقصة على الدوام وعلمه ناقص على الدوام، لا بل لأن الأدب والفن هما النسغ الحي للروح الإنساني، ولأن “الثقافة هي ما يتبقى بعد أن ننسى كل شيء”.

عندما يُدمَّر كل شيء، يبقى الأدب والفن؛ لأنه ليس من قوة في العالم تستطيع تدميرهما، إلا بقدر ما يدمران نفسيهما بنفسيهما، أو بقدر ما تدمر الحياة الإنسانية نفسها؛ إذ لا يمكن فصل الأدب عن الأديبة والأديب، ولا فصل الفن عن الفنانة والفنان؛ لأن الأدب والفن نسغ الحياة الإنسانية الهش، الذي لا يقوى عليه الجبابرة والطواغيت، ولا المستبدون والمتسلطون، على الرغم من هشاشته. يقال: الإنسان ابن شروطه التاريخية، وصانع هذه الشروط، ولكنه لا يصنعها على هواه. أدعي أن الأدباء والفنانين والفلاسفة يصنعون هذه الشروط على هواهم، وإن لم تظهر نتائج صناعتهم وأعمالهم على الفور. وهذا معنى اقتران الأدب والفن والفكر بالحرية، بل لعل الأدب والفن والفكر حرية متعينة، ترتاد الآفاق، وتغامر في المجهول، وتتجاوز الحدود مرة تلو مرة.

عندما يسقط كل شيء، ويُدمَّر كل شي، يبقى الروح الإنساني، وينهض، لا لمجرد الدفاع عن الوجود وإنقاذ الحياة، بل لابتكار الوجود، وإعادة إنتاج الحياة الإنسانية في أفق المستقبل؛ هذه هي، بالضبط، رسالة الأدب والفن، إعادة إنتاج الحياة وإعادة تشكيل الوجود أو ابتكاره، لا الدفاع عن قضايا الأمة، ولا الدفاع عن المحرومين والمهمشين، ولا مقارعة الإمبريالية والصهيونية وما شئتم من طواحين الهواء، ولا التغني بأمجاد الماضي وعظمة مسوخ التاريخ من الأبطال والفاتحين.

الأدب والفن علامتان على هشاشة الحياة ومرحها، لا تفوقهما أي قوة سوى قوة الحياة نفسها، عندما تغيِّر أشكالها. بوسع المستبدين والمتسلطين، الذين خبا فيهم الروح الإنساني أو انطفأ، أن يعتقلوا الأدباء والفنانين، وأن يهجروهم وأن يقتلوهم أيضًا، ولكنْ، ليس بوسعهم اعتقال الأدب والفن أو قتلهما. والفلسفة قرينة الأدب والفن، وأم العلوم، التي قد يخذلها العاقون من أولادها، ويجلبون لها العار.

“أشعر أن كل ما يحدث في هذا العالم إنما يحدث لي شخصيًا”. هذا قول للفيلسوف الوجودي الروسي، نيقولاي بردياييف، الذي كان اشتراكي الهوى، وعيِّنه البلاشفة -وربما لينين نفسه- وزيرًا للثقافة، ولكنه رغب عن ذلك، وآثر أن “يخون وطنه” دفاعًا عن الروح الإنساني الذي هدرته الثورة البلشفية، ولكيلا يخضع للأديب الأول والفنان الأول والفيلسوف الأول والفلاح الأول…. هذا الشعور النابع من الاتصال الحميم بالعالم هو الشعور الأخلاقي الأسمى، والإدراك الأعمق لسمو الرابطة الإنسانية، ومن ثم، سمو الاجتماعية (الوطنية) على ما عداها من الروابط، مهما تكن الأخيرة قوية وحميمة، الشعور الأخلاقي هو الموقف الأخلاقي المناهض -على طول الخط- للتسلط والاستبداد وغطرسة القوة وغطرسة المال، مناهض -على طول الخط- لكل ما يهين كرامة الإنسان وينتهك حريته وحقوقه، مناهضته للقبح والرداءة والابتذال والإسفاف والانحطاط. فكيف يمكن لأديب أو فنان أو مفكر أن يخون نفسه، ويخون الأدب والفن والفكر، ويقف إلى جانب من يقتلون مواطناته ومواطنيه، ويدمرون وطنه، وفي سبيل أي شيء يفعل ذلك؟! الذين يخونون الأدب والفن والفكر يحوّلون -هذه جمعًا- إلى صف كلام وبلاغات جوفاء وهذيانات عصابية وضجيج، وشيء ما يشبه ما سماه بريجنسكي “رضاعة التسلية”.

ارتباط الأدب والفن والفكر بالحياة الإنسانية الحرة، لا بمجرد الحياة، هو ما يحدد آجال الأعمال الأدبية والفنية والفكرية أو أعمارها. ولربما كانت آجال بعضها لا تتجاوز وقت نشرها أو إلقائها أو عرضها، إلا حين يتدنى الذوق العام، وتتدنى معه القيم الأخلاقية، كما تدنيا في سورية إلى الدرك الأسفل، بفعل التسلط والاستبداد والحجر على العقول والضمائر. يتدنى الوعي العام والذوق العام حين تكون هناك وزارة للحقيقة، كوزارة الإعلام، ووزارة للذوق، كوزارة الثقافة، ومرجعًا وحيدًا للمباح والمحظور هو المخابرات، وتحت جناحها وزارة الأوقاف الموقوفة هي ذاتها على التسبيح بحمد السلطان.

رسالة الأدب والفن والفكر –أيضًا- تكاد تتخلص في الدفاع عن القيم الإنسانية العامة، الأخلاقية والجمالية، المشتركة بين جميع البشر العقلاء والأخلاقيين، وأن يرتقي الأدب والفن والفكر، لا بالوعي العام فحسب، بل بالذوق العام في البلاد إلى مستوى هذه القيم، وفي مقدمها احترام كرامة الإنسان والاعتراف بجدارته واستحقاقه، أساسًا للمساواة والحرية والعدالة. الأدباء والفنانون والمفكرون “يواصلون عمل الآلهة في الخلق” والابتكار والأبداع، بأدوات بشرية من خلقهم وإبداعهم، وسلاحهم الأمضى هو النقد، نقد جميع الشروط التي تغرِّب الإنسان عن الإنسان، فتغرب كل فرد عن ذاتها الإنسانية أو ذاته.

عندما يسقط كل شيء ينهض الأدب والفن، ويأتي الفكر متأخرًا، على عادته؛ فقد لاحظ كثيرون أن المبدعين السوريين اليوم يبدعون في الخارج أكثر مما كانوا أنفسهم يبدعون في الداخل، وكذلك المبدعات السوريات، علاوة على إبداع الشابات والشباب، وكان الله في عون المبدعات والمبدعين في داخل الداخل؛ لأن الداخل السوري صار ممتدًا على اتساع رقعة العالم، والإبداع، كما يعلم الجميع، ليس خلقًا من العدم، أو خلق شيء من لا شيء. لعل ما في هذا الامتداد من آلام، وما يعانيه المهاجرون والمهجّرون من تمزق، يحمل في طياته رؤية جيدة لما هي رسالة الأدب والفن والفكر، ولما هي رسالة المثقفة والمثقف، التي لا تعدو، في نظرنا، أن تكون قدرتها أو قدرته على تحمل مسؤولية إنسانيتها أو إنسانيته؛ فلا يحق لأحد -كائنًا من كان- أن يقرر ما هي مسؤولية المثقفة والمثقف، وما هي مسؤولية الأدب والفكر والفن، وما هي رسالة كل منهما، ولا يحق لأي جهة أو مؤسسة أو سلطة أن تقرر ما هي هذه المسؤولية، وما هي هذه الرسالة.

رسالة الأدب والفن هي الابتكار والإبداع، وليستثمر فيهما من يشاء، كيفما يشاء.




المصدر